كتاب تفسير القرطبي (اسم الجزء: 3)

وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ كَمْ جَاءَهُمْ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ آيَةٍ مُعَرِّفَةٍ بِهِ دَالَّةٍ عَلَيْهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا: يَعْنِي الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ فَلْقِ الْبَحْرِ وَالظُّلَلِ مِنَ الْغَمَامِ وَالْعَصَا وَالْيَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِسُؤَالِهِمْ عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيعِ لَهُمْ وَالتَّوْبِيخِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُ
لَفْظٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْعَامَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِكَوْنِهِمْ بَدَّلُوا مَا فِي كُتُبِهِمْ وَجَحَدُوا أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاللفظ «1» مُنْسَحِبٌ عَلَى كُلِّ مُبَدِّلٍ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: النِّعْمَةُ هُنَا الْإِسْلَامُ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ. وَيَدْخُلُ فِي اللَّفْظِ أَيْضًا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، فَإِنَّ بَعْثَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ نِعْمَةٌ عَلَيْهِمْ، فَبَدَّلُوا قَبُولَهَا وَالشُّكْرَ عَلَيْهَا كُفْرًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ خَبَرٌ يَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ. وَالْعِقَابُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَقِبِ، كَأَنَّ الْمُعَاقِبَ يَمْشِي بِالْمُجَازَاةِ لَهُ فِي آثَارِ عَقِبِهِ، وَمِنْهُ عُقْبَةُ «2» الرَّاكِبِ وَعُقْبَةُ الْقِدْرِ «3». فَالْعِقَابُ وَالْعُقُوبَةُ يَكُونَانِ بِعَقِبِ الذَّنْبِ، وَقَدْ عَاقَبَهُ بذنبه.

[سورة البقرة (2): آية 212]
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212)
قَوْلُهُ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَالْمُرَادُ رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ، لِأَنَّهُ لم يتقد لِلْفَاعِلِ ذِكْرٌ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ" زُيِّنَتْ" بِإِظْهَارِ الْعَلَامَةِ، وَجَازَ ذَلِكَ لِكَوْنِ التَّأْنِيثِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ، وَالْمُزَيِّنُ هُوَ خَالِقُهَا وَمُخْتَرِعُهَا وَخَالِقُ الْكُفْرِ، وَيُزَيِّنُهَا أَيْضًا الشَّيْطَانُ بِوَسْوَسَتِهِ وَإِغْوَائِهِ. وَخَصَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لِقَبُولِهِمُ التَّزْيِينَ جُمْلَةً، وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى الدُّنْيَا وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْآخِرَةِ بِسَبَبِهَا. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِيَبْلُوَ الخلق أيهم أحسن عملا،
__________
(1). في من" فالجحود".
(2). عقبة الراكب (بضم فسكون): الموضع يركب منه.
(3). في هامش ب" في الصحاح: والعقبة أيضا شي من المرق يرده مستعير القدر إذا ردها".

الصفحة 28