كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 3)

وثانيها: ما يَحْكُمُ العَقْلُ [بقُبْحِهِ] في أوَّل الأَمْر، إلاَّ أنَّهُ لَمَّا وَرَدَ الشَّرْع به، وَبَيَّنَ الحِكْمَةَ فِيهِ، [وهي] الابْتِلاءُ، والامْتِحَانُ؛ عَلى ما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة: 155] ، فَحِينَئِذٍ يَعْتَقِدُ المسلمُ حُسْنَهُ، وكَوْنَهُ حِكْمَةً وَصَوَاباً.
[وثالثها] : ما لا يَهْتَدِي العَقْلُ إلى حُسْنِهِ، وَلاَ إلى [قُبْحِه] ، بَل [يراها] كالعَبَثِ الخَالِي عن المنفَعَةِ والمَضَرَّةِ، وهُوَ مِثْلُ أَفْعالِ الحجِّ مِنَ السَّعِي بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، فذكر الله تعالى هذا القِسْمَ عَقِيبَ القِسْمَين الأَوَّلَيْنِ؛ ليكونَ قد نَبَّهَ على جميع أقْسَامِ التكاليفِ.
قوله [تعالى] : «إنَّ الصَّفَا والمَرْوَةَ» : [الصَّفَا:] اسمُ «إنَّ» ، و «مِنْ شَعَائِر الله» خَبَرُهَا.
قال أبُوا البَقَاءِ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: وفي الكَلاَم حَذْفُ مُضَافٍ، تقديره «طَوَافُ الصَّفَا، أَوْ سَعْيُ الصَّفَا» . وألفُ «الصَّفَا» [مُنْقَلِبَةٌ] عن وَاوٍ؛ بِدَلِيل قَلْبِهَا في التثنية وَاواً؛ قالوا: صَفَوَانِ؛ والاشْتِقَاقُ يَدُلُّ عليه أيضاً؛ لأنَّهُ مِنَ الصَّفْو، وهو الخُلُوصُ، [والصَّفَا: الحَجَرُ الأمْلَسُ] .
وقال القُرْطُبِي: «والصَّفَا مقصورٌ» جمع صَفَاة، وهي الحِجَارة المُلْسُ.
وقيل: الصَّفَا اسْمٌ مُفْرَدٌ؛ وجمعه «صُفِيٌّ» - بِضَمِّ الصاد -[وَأصْفَاء] ؛ على [وزن] أَرْجَاء.
قال [الرَّاجِزُ] : [الرجز]
850 - كَأَنَّ مَتْنَيْهِ مِنَ النَّفِيِّ ... مَوَاقِعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ
وقيل: مِنْ شُرُوط الصَّفَا: البَيَاضُ والصَّلاَبَةُ، واشتقاقُهُ مِنْ: «صَفَا يَصْفُو» ، أيْ: [أُخْلِصَ مِن] التُّرابِ والطِّينِ، والصَّفَا: الحَجَرُ الأَمْلَسُ.
وفي كتاب الخَلِيل: الصَّفَا: الحَجَرُ الضَّخْمُ الصُّلْبُ الأَمْلَسُ، وإذا [نَعتُوا] الصَّخْرةَ، قالوا: صَفَاةٌ صَفْوَاءُ، وإذَا ذَكَّرُوا، قالوا: «صَفاً صَفْوَان» ، فجعلوا الصَّفَا [والصَّفَاة] كَأَنَّهما في معنى واحد.
قال المُبَرِّدُ: «الصَّفَا» : كُلُّ حَجَرٍ أَمْلَسَ لا يُخالِطُهُ غَيْرُهُ؛ مِنْ طِين أو تُرَابٍ،

الصفحة 91