كتاب وحي القلم (اسم الجزء: 3)

الحب الأخص، ثم من الإنسان للإنسانية، وهو الحب مطلقًا بعمومه وبغير أسبابه الملجئة من الحاجة والغريزة؛ وهي درجات كدرجات الحياة نفسها من طفوتها إلى شبابها إلى الشيخوخة، ومن العاطفة إلى الرغبة إلى العقل.
ثم إنه ما دام كمال الفضيلة هو الأمانة، فما قبلها أنواع منها؛ فبر الولد أمانة الطبع المتأدب، وعفة المحب أمانة القلب الكريم، والثالثة أمانة الخلق العالي، وهي أسماهن؛ لأنها لن تكون خلقًا ثابتًا إلا وقد خضع لقانونها الطبع والقلب، ودخل في أسبابها الأدب والكرم؛ فالأمانة الكاملة في هذه الفلسفة هي الأمانة للإنسانية العامة المتصلة والكرم؛ فالأمانة الكاملة في هذه الفلسفة هي الأمانة للإنسانية العامة المتصلة بالمرء من أبعد جهاته، دون الإنسانية الخاصة بكل شخص من أب، أو أم، أو قريب؛ ودون التي هي أخص وهي إنسانية الحب.
ونرى في لفظ الحديث أن كل رجل من هؤلاء الذين مثلوا رواية الإنسانية الفاضلة في فصولها الثلاثة، لا يقول إنه فعل ما فعل من صالح أعماله: {إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: 272] ، وقد تطابقوا جميعًا على هذه الكلمة، وهي من أدق ما في فلسفة الإنسانية في شعرها ذلك، فإن معناها أن الرجل في صالح عمله إنما كان مجاهدًا نفسه، يمنعها ما تحرص عليه من حظها أو لذتها أو منفعتها، أي منخلعًا من طبيعته الأرضية المنازعة لسواها، المنفردة بذاتها، متحققًا بالطبيعة السماوية التي لا يرحم الله عبدًا إلا بها، وهي رحمة الإنسان غيره، أي اندماجه باستطاعته وقوته، وإعطاؤه من ذات نفسه ومعاونته كف أذاه.
والحديث كالنص على أن هذه الرحمة في النفس هي الدين عند الله، لا يصلح دين بغيرها، ولا يقبل الله صرفًا ولا عدلًا من نفس تخلو منها؛ وإذا كانت بهذه المنزلة، وكانت أساس ما يفرض على الإنسان من الخير والحق، فهي من ذلك في معنى الحديث أساس ما يصلح هذه الإنسانية من الشر والباطل؛ وبهذا كله تكون الغاية الفلسفية التي ينتهي إليها كلامه صلى الله عليه وسلم، أن تنشئة الناس على البر والعفة والأمانة للإنسانية هي وحدها الطريقة العملية الممكنة لحل معضلة الشر والجريمة في الاجتماع البشري. وانظر كيف جعل نهاية السمو في رحمة المال الذي يصفونه بأنه شقيق الروح، فكأن الإنسان لا يخرج فيها لغيره من بعض ماله، بل ينخلع من بعض روحه؛ وهذا يقرر لك فلسفة أخرى أن السعادة الإنسانية الصحيحة في العطاء دون الأخذ، وأن الزائفة هي في الأخذ دون العطاء؛ وذلك آخر ما انتهت إليه فلسفة الأخلاق؛ فما المرء إلا ثمرة تنضج بموادها، حتى إذا نضجت واحلولت كان مظهر كمالها ومنفعتها في الوجود أن تهب حلاوتها فإذا هي أمسكت الحلاوة على

الصفحة 10