كتاب وحي القلم (اسم الجزء: 3)

تلك، ويتورطون في أقوال مضحكة، وينسون أنه لا يجوز القطع على الشيء من ناحية الشعور ما دام الشعور يختلف في الناس باختلاف أسبابه وعوارضه، ولا من ناحية يجوز أن يكون الخطأ فيها؛ وهم أبدًا في إحدى الناحيتين أو في كلتيهما.
وهذا شرح الجواليقي من أمتع الكتب التي أشرنا إليها، وصاحبه هو الإمام أبو منصور موهوب الجواليقي المولود في سنة 465 للهجرة، والمتوفى سنة540، وهو من تلاميذ الإمام الشيخ أبي زكريا الخطيب التبريزي؛ أول من درس الأدب في المدرسة النظامية ببغداد* وقرأ الجواليقي على شيخه هذا سبع عشرة سنة، استوفى فيها علوم الأدب من اللغة والشعر والخبر والعربية بفنونها، ثم خلف شيخه على تدريس الأدب في النظامية بعد علي بن أبي زيد المعروف بالفصيحى**.
وما نشك أن هذا الشرح هو بعض دروسه في تلك المدرسة، فأنت من هذا الكتاب كأنك بإزاء كرسي التدريس في ذلك العهد، تسمع من رجل انتهت إليه إمامة اللغة في عصره، فهو مدقق محيط مبالغ في الاستقصاء لا يند عنه شيء مما هو بسبيله من الشرح، معنيٌّ بالتصريف ووجوهه مما انتهى إليه من أثر الإمام ابن جني فيلسوف هذا العلم في تاريخ الأدب العربي، فإن بين الجواليقي وبينه شيخين كما تعرف من إسناده في هذا الشرح.
وقد قالوا: إن أبا منصور في اللغة أمثل منه في النحو، على إمامته فيهما معًا؛ إذ كان يذهب في بعض علل النحو إلى آراء شاذة ينفرد بها، وقد ساق منها عبد الرحمن الأنباري مثلين في كتابه "نزهة الألباء"، ولكن هذا الشذوذ نفسه دليل على استقلال الفكر وسعته ومحاولته أن يكون في الطبقة العليا من أئمة العربية***، وهو على ذلك رجل ثقة صدوق كثير الضبط عجيب في التحري والتدقيق؛ حتى
__________
* أنشأها نظام الملك وزير ملك شاه السلجوقي المتوفى سنة485هـ.
** لقب بذلك لكثرة إعادته كتاب الفصيح في اللغة.
*** قال ياقوت في ترجمة أبي علي الفارسي من معجم الأدباء: قرأت بخط الشيخ أبي محمد الخشاب: كان شيخنا "يعني الجواليقي" قلما يتنبل عنده ممارس للصناعة النحوية ولو طال فيها باعه، ما لم يتمكن من علم الرواية وما تشتمل عليه من ضروبها، ولا سيما رواية الأشعار العربية وما يتعلق بمعرفتها من لغة وقصة؛ ولهذا كان مقدمًا لأبي سعيد السيرافي على أبي علي الفارس -رحمهما الله- ويقول: أبو سعيد أروى من أبي علي، وأكثر تحققًا منه بالرواية وأثرى منه فيها.

الصفحة 315