كتاب وحي القلم (اسم الجزء: 3)

وإذا تبينت هذا وحققته أدركت لماذا يتخبط منتحلو الجديد بيننا وأكثرهم يدعيه سفاهًا ويتقلده زورًا، وجملة عملهم كوضع الزنجي الذرور الأبيض "البودرة" على وجهه ثم يذهب يدعي أنه خرج أبيض من أمه لا من العلبة.. فإن منهم من يصنع رسالة في شاعر وهو لا يفهم الشعر ولا يحسن تفسيره ولا يجده في طبعه؛ ومنهم من يدرس الكاتب البليغ وقد باعده الله من البلاغة ومذاهبها وأسرارها، ومنهم من يجدد في تاريخ الأدب، ولكن بالتكذب عليه والتقحم فيه والذهاب في مذهب المخالفة، يضرب وجه المقبل حتى يجيء مدبرًا، ووجه المدبر حتى يعود مقبلًا، فإذا لكل فريق جديد، وينسى أن جديده بالصنعة لا بالطبيعة وبالزور لا بالحق.
ألا إن كل من شاء استطاع أن يطب لكل مريض، لا يكلفه ذلك إلا قولًا يقوله وتلفيقًا يدبره، ولكن أكذلك كل من وصف دواء استطاع أن يشفي به؟
وبعد؛ فقد قرأت رسالة امرئ القيس التي وضعها الأديب السيد محمد صالح سمك، فرأيت كاتبها -مع أنه ناشئ بعد- قد أدرك حقيقة الفن في هذا الوضع من تجديد الأدب، فاستقام على طريقة غير ملتوية، ومضى في المنهج السديد، ولم يدع التثبت وإنعام النظر وتقليب الفكر وتحصين الرأي، ولا قصر في التحصيل والاطلاع والاستقصاء، ولا أراه قد فاته إلا ما لا بد أن يفوت غيره مما ذهب في إهمال الرواة المتقدمين وأصبح الكلام فيه من بعدهم رجمًا بالغيب وحكمًا بالظن.
فإن امرأ القيس في رأيي إنما هو عقل بياني كبير من العقول المفردة التي خلقت خلقتها في هذه اللغة، فوضع في بيانها أوضاعًا كان هو مبتدعها والسابق إليها، ونهج لمن بعده طريقتها في الاحتذاء عليها والزيادة فيها والتوليد منها؛ وتلك هي منقبته التي انفرد بها والتي هي سرد خلوده في كل عصر إلى دهرنا هذا وإلى ما بقيت اللغة؛ فهو أصل من الأصول، في أبواب من البلاغة كالتشبيه والاستعارة وغيرهما، حتى لكأنه مصنع من مصانع الغة لا رجل من رجالها؛ وكما يقال في أمننا في أمم الصناعة: سيارة فورد وسيارة فيات، يمكن أن يقال مثل ذلك في بعض أنواع البلاغة العربية: استعارة امرئ القيس، وتشبيه امرئ القيس.
ولكن تحقيق هذا الباب وإحصاء ما انفرد به الشاعر وتأريخ كلماته البيانية مما لا يستطيعه باحث وليس لنا فيه إلا الوقوف عند ما جاء به النص.
ولقد نبهنا في "إعجاز القرآن" إلى مثل هذا؛ إذ نعتقد أن أكثر ما جاء في القرآن الكريم كان جديدًا في اللغة، لم يوضع من قبله ذلك الوضع ولم يجر في

الصفحة 319