كتاب وحي القلم (اسم الجزء: 3)

يخطئ الضعاف من الكتاب وبخاصة في أيامنا هذه.. إذا حسبوا الفصاحة العربية قبيلًا واحدًا من اللفظ الرقيق المأنوس؛ ولقد تجد بعض هؤلاء الضعفاء وإنه ليرى في الكلام الجزل المتفصح ما يرى في جمجمة الأعاجم إذا نطقوا فلم يبينوا؛ وإنما هي العربية، وإنما فصاحتها في مجموع ما يطرد به القول؛ والفصاحة في جملتها وتفصيلها إحكام التناسب بين الألفاظ والمعاني، والغرض الذي يتجه إليه كلاهما؛ فمتى فصل الكلام على هذا الوجه وأحكم على هذه الطريقة، رأيت جماله واضحًا بينًا في كل لفظ تقوم به العبارة، من النسج المهلهل الرقيق، إلى الحبك المحكم الدقيق، إلى الأسلوب المندمج الموثق الذي يسرد في قوة الحديد؛ إذ يكون كل حرف لموضعه، ويكون كل موضع لحرفه، ويكون كل ذلك بمقدار لا يسرف، وقياس لا يخطئ، ووزن لا يختلف؛ وهذه هي طبيعة الفصاحة العربية دون سائر اللغات، وبها أمكن الإعجاز في هذه اللغة ولم يمكن في سواها.
ومترجم البؤساء أحد الأفراد المعدودين الذين أحكموا هذه الطريقة ونفذوا إلى أسرارها، ففي كل موضع من كتابته موضع روعة، حتى ما تدري أيكتب أم يصوغ أم يصور، وكأنه لا ينقل من لسان إلى لسان، بل من فكر إلى فكر، فترى أكثر جملة كأنها تضيء فيها المصابيح.
ومن الخواص التي انفرد بها حافظ أنه ظاهر في صنعة ألفاظه ظهور هيجو في صنعة معانيه؛ إذ لا تجد غيره من المترجمين يتسع لهذا الأسلوب أو يطيقه؛ وأكثر الكتب المترجمة إلى العربية إنما تطمس على اسم المترجم قبل أن تكشف عن اسم المؤلف، فلا يحيا الميت إلا بموت الحي؛ وهم في أكثر ما يصنعون لا يعدون أن يصححوا العامية أو يفصحوا بها قليلًا، فيستوي في صنعة البيان أن يكون ناقل الكتاب هذا أو ذاك أو ذلك؛ لأنهم سواسية، ولا تؤتيك كتبهم أكثر مما يؤتيك الاسم المعلق على مسماه.
غير أنك في البؤساء ترى مع الترجمة صنعة غير الترجمة، وكأنما ألف هيجو هذا الكتاب مرة وألفه حافظ مرتين، إذ ينقل عن الفرنسية؛ ثم يفتن في التعبير عما ينقل، ثم يحكم الصنعة فيما يفتن، ثم يبالغ فيما يحكم؛ فأنت من كتابه في لغة الترجمة، ثم في بيان اللغة، ثم في قوة البيان؛ وبهذا خرج الكتاب وإن مترجمه لأحق به في العربية من مؤلفه، وجاء وما يستطيع أحد أن ينسى أنه لحافظ دون سواه.
وتلك طريقة في الكتابة لا يستعان عليها إلا بالأدب الغزير، والذوق الناضج، والبيان المطبوع؛ ثم بالصبر على مطاولة التعب ومعاناة الكد في تخير

الصفحة 323