كتاب وحي القلم (اسم الجزء: 3)

مقدار ذلك في الاحتجاج لضعفه، وألهم من الشواهد والحجج ما لو ألهم بعدده من المعاني والخواطر لكان عسى ...
فإذا نافرت المعاني ألفاظها واختلفت الألفاظ على معانيها قال: إن هذا في الفن.. هو الاستواء والاطراد والملاءمة وقوة الحبك؛ وإذا عوض وخانه اللفظ والمعنى جميعًا وأساء ليتكلف وتساقط ليتحذلق وجاءك بشعره وتفسير شعره والطريقة لفهم شعره قال: إنه أعلى من إدراك معاصريه، وإن عجرفة معانيه هذه آتية من أن شعره من وراء اللغة، من وراء الحالة النفسية، من وراء العصر، من وراء الغيب: كأن الموجود في الدنيا بين الناس هو ظل شخصه لا شخصه، والظل بطبيعته مطموس مبهم لا يبين إبانة الشخص. وإذا أهلك الشاعر الاستعارة وأمرض التشبيه وخنق المجاز بحبل -قال لك: إنه على الطريقة العصرية وإنما سدد وقارب وأصاب وأحكم، وإذا سمى المقالة قصيدة.. وخلط فيها خلطه وجاء في أسوأ معرض وأقبحه وخرج إلى ما لا يطاق من الركاكة والغثاثة- قال لك: هذه هي وحدة القصيدة، فهي كل واحد أفرغ إفراغ الجسم الحي: رأسه لا يكون إلا في موضع رأسه ورجلاه لا تكون إلا في موضع رجليه..
تلك طبقات من الضعف تظاهرت الحجج من أصحابها على أنها طبقات من القوة، غير أن مصداق الشهادة للأقوياء عظامهم المشبوحة، وعضلاتهم المفتولة، وقلوبهم الجريئة، أما الألسنة فهي شهود الزور في هذه القضية خاصة.
هناك ميزان للشاعر الصحيح وللآخر المتشاعر: فالأول تأخذ من طريقته ومجموع شعره أنه ما نظم إلا ليثبت أنه قد وضع شعرًا، والثاني تأخذ من شعره وطريقته أنه إنما نظم ليثبت أنه قرأ شعرًا ... وهذا الثاني يشعرك بضعفه وتلفيقه أنه يخدم الشعر؛ ليكون شاعرًا، ولكن الأول يريك بقوته وعبقريته إلى الشعر نفسه يخدمه؛ ليكون هو شاعره.
أما فريق المتشاعرين فليمثل له القارئ بما شاء وهو في سعة.. وأما فريق الشعراء ففي أوائل أمثلته عندي الشاعر المهندس علي محمود طه. أشهد: أني أكتب عنه الآن بنوع من الإعجاب الذي كتبت به في "المقتطف" عن أصدقائي القدماء: محمود باشا البارودي، وإسماعيل باشا صبري، وحافظ، وشوقي -رحمهم الله وأطال بقاء صاحبنا- فهذا الشاب المهندس أوتي من هندسة البناء قوة التمييز ودقة المحاسبة، ووهب ملكة الفصل بين الحسن والقبح في الأشكال مما

الصفحة 326