كتاب وحي القلم (اسم الجزء: 3)

عِلَّته من العلم وما علته من الذوق وهذا إلى جلاء الفطنة وصقال الطبع وتموج الخيال وانفساح الذاكرة وانتظام الأشياء فيها؛ وبهذا كله استعان في شعره وقد خلق مهندسًا شاعرًا، ومعنى هذا أنه خلق شاعرًا مهندسًا؛ وكأن الله -تعالى- لم يقدر لهذا الشاعر الكريم تعلم الهندسة ومزاولتها والمهارة فيها إلا لما سبق في علمه أنه سينبغ نبوعه للعربية في زمن الفوضى وعهد التقلل، وحين فساد الطريقة وتخلف الأذواق وتراجع الطبع ووقوع الغلط في هذا المنطق لانعكاس القضية، فيكون البرهان على أن هذا شاعر وذاك نابغة وذلك عبقري -هو عينه البرهان على أن لا شعر ولا نبوغ ولا عبقرية؛ وهذه فوضى تحتاج في تنظيمها إلى "مصلحة تنظيم" بالهندسة وآلاتها والرياضة وأصولها والأشكال والرسوم وفنونها، فجاء شاعرنا هذا وفيه الطب لما وصفنا؛ فهو ينظم شعره بقريحة بيانية هندسية، أساسها الاتزان والضبط، وصواب الحسبة فيما يقدر للمعنى، وإبداع الشكل فيما ينشئ من اللفظ، وألا يترك البناء الشعري قائمًا ليقع إذ يكون واهنًا في أساسه من الصناعة، بل ليثبت إذ يكون أساسه من الصناعة في رسوخ وعلى قدر.
وديوان "الملاح التائه" الذي أخرجه هذا الشاعر لا ينزل بصاحبه من شعر العصر دون الموضع الذي أومأنا إليه؛ فما هو إلا أن تقرأه وتعتبر ما فيه بشعر الآخرين حتى تجد الشاعر المهندس كأنه قادم للعصر محملًا بذهنه وعواطفه وآلاته ومقاييسه ليصلح ما فسد، ويقيم ما تداعى، ويرمم ما تخرب، ويهدم ويبني.
ديوان الشاعر الحق هو إثبات شخصيته ببراهين من روحه، وههنا في "الملاح التائه" روح قوية فلسفية بيانية، تؤتيك الشعر الجيد الذي تقرؤه بالقلب والعقل والذوق، وتراه كفاء أغراضه التي ينظم فيها؛ فهو مكثر حين يكون الإكثار شعرًا، مقبل حين يكون الشعر هو الإقلال؛ ثم هو على ذلك متين رصين، بارع الخيال، واسع الإحاطة، تراه كالدائرة: يصعد بك محيطها ويهبط لا من أنه نازل أو عالٍ، ولكن من أنه ملتفٌ مندمج، موزون مقدر، وضع وضعه ذلك ليطوح بك.
وهو شعر تعرف فيه فنية الحياة، وليس بشاعر من لا ينقل لك عن الحياة نقلًا فنيًّا شعريًّا، فترى الشيء في الطبيعة كأنه موجود بظاهره فقط، وتراه في الشعر بظاهره وباطنه معًا؛ وليس بشعر ما إذا قرأته، واسترسلت إليه لم يكن عندك وجهًا من وجوه الفهم والتصوير للحياة والطبيعة في نفس ممتازة مدركة مصورة.
ولهذا فليس من الشرط عندي أن يكون عصر الشاعر وبيئته في شعره، وإنما

الصفحة 327