كتاب وحي القلم (اسم الجزء: 3)

الشرط أن تكون هناك نفسه الشاعرة على طريقتها في الفهم والتصوير، وأنت تثبت هذه النفس بهذه الطريقة أن لها أن تقول كلمتها الجديدة، وأنها مخولة له الحق في أن تقولها؛ إذ هي للعقول والأرواح أخت الكلمة القديمة: كلمة الشريعة التي جاءت بها النبوة من قبل.
وليس في شعر علي طه من عصرياتنا غير القليل، ولكن العجيب أنه لا ينظم في هذا القليل إلا حين يخرج المعنى من عصره ويلتحق بالتاريخ، كرثاء شوقي، وحافظ، وعدلي باشا، وفوزي المعلوف، والطيارين دوس وحجاج، والملك العظيم فيصل؛ فإن يكن هذا التدبير عن قصد وإرادة فهو عجيب، وإن كان اتفاقًا ومصادفة فهو أعجب؛ على أنه في كل ذلك إنما يرمي إلى تمجيد الفن والبطولة في مظاهرها، متكلمة، وسياسية، ومغامرة، ومالكة.
أما سائر أغراضه فإنسانية عامة، تتغنى النفس في بعضها، وتمرح في بعضها، وتصلي في بعضها؛ وليس فيها طيش ولا فجور ولا زندقة إلا ... ظلالًا من الحيرة أو الشك، كتلك التي في قصيدة "الله والشاعر"، وأظنه يتابع فيها المعري؛ ولست أدري كم ينخدع الناس بالمعري هذا، وهو في رأيي شاعر عظيم، غير أن له بضاعة من التلفيق تعدل ما تخرجه "لا نكشير" من بضائعها إلى أسواق الدنيا.
ومما يعجبني في شعر علي طه أنه في مناحي فلسفته وجهات تفكيره يوافق رأيي الذي أراه دائمًا، وهو أن ثورة الروح الإنسانية ومعركتها الكبرى مع الوجود -ليستا في ظاهر الثورة ولا العراك مع الله كما صنع المعري وأضرابه في طيشهم وحماقتهم، ولكنها في الهدوء الشعري للروح المتأملة، ذلك الهدوء الذي يجعل الطبيعة نفسها تبتسم بكلام الشاعر كما تبتسم بأزهارها ونجومها، ويجعل الشاعر أداة طبيعية متخذة لكشف الحكمة وتغطيتها معًا؛ فإن العجب الذي ليس أعجب منه في التدبير الإلهي للنفوس الحساسة -أن زخرفة الشعر وما يجري مجراه في الفن إنما هي ضرب من زخرف الطبيعة حين تبتدع الشكل الجميل لتتمم أغراضها من ورائه؛ ولو ثارت الأزهار -مثلًا- على الوجود وخالقه ثورة أولئك الشعراء لما صنعت شيئًا غير إفساد حكمتها هي وما يتصل بهذه الحكمة من المصالح والمنافع، ولن تنتصر إلا ببقائها أزهارًا، فذلك حربها وسلمها معًا.
وأسلوب شاعرنا أسلوب جزل، أو إلى الجزالة، تبدو اللغة فيه وعليها لون خاص من ألوان النفس الجميلة يزهو زهوه فيكثر منه في النفس تأثيرها وجمالها،

الصفحة 328