كتاب وحي القلم (اسم الجزء: 3)

إليه قطعة ملحنة ونقول له: اسمع وافهم واحكم وانتقد؛ يسمعها مرة بعقله أو لعقله يتبين ما يكون فيها صوابًا وما يكون خطأ، ثم ما يعلو عن الصواب من الإجادة والإتقان، وما ينحط عن الخطأ من الإساءة والتخليط؛ فهذا هو الفهم.
ويسمعها مرة ثانية بحسه أو لحسه، فيرى أثر ما فهم، ويديرها في ذوقه ليعرف كيف موقعها من الغرض الذي وضعت له، فإنها لم توضع لتكون أصواتًا، بل لتخلق من الأصوات شيئًا؛ فهذا هو الذوق، وهو كما تراه بعد الفهم وناشئ عنه. ومثل الأستاذ طه حسين لا يخفى عليه أن من يقول: إن الذوق في شيء إنما هو فهمه، أو إنما هو عن فهمه، أو إنما ينشأ عن فهمه، فالعبارة في باب المجاز واحدة لا تختلف.
ثم إن أستاذ الموسيقى وقد سمع القطعة مرتين، أو مرة كمرتين إن بلغ أن يكون له في كل أذن واحدة أذنان، يستفتي ذوقه الفني ويحكم للقطعة أم عليها؛ فهذا هو أثر الذوق.
الآن قد حكم الأستاذ وانتقد وجزم برأيه، فندب له فلان يقول: أخطأت وأسأت وجهلت وغفلت، أو تعصبت وحططت في هوى صاحب اللحن؛ فمن أين جاء هذا الخلاف وكيف وقع هذا القول؟ بل كيف ساغ للثاني أن يجهل الأول ويرى غير رأيه ويحكم غير حكمه، إلا إذا كان قد فهم غير فهمه فأنشأ له الفهم ذوقًا وأحدث له الذوق حكمًا وجاءت من هذه المقدمات تلك النتيجة التي نسميها النقد، وما هي في الحقيقة إلا الذوق والفهم جميعًا، فالذين يذوقون الموسيقى ويطربون لها ولا يفهمونها فقد فهموها على مقدار ما استقر في نفوسهم من أساليب التطريب وما فيهم من المطاوعة لهذه العاطفة؛ أو لا تراهم يقولون في أمثال هؤلاء: إن لهم آذانًا موسيقية؟ فهذه الأذن هي الفهم بعينه، لأنها حاسة اجتمعت من مران طويل، وقد تقوم في بعض الناس على جهله بالموسيقى مقام علم برأسه.
ويقول الأستاذ طه: إنه قد يقرأ كلامي ويفهمه ولا يذوقه، ولكن عدم الذوق هنا هو الذوق؛ وليت شعري ما معنى قول المتنبي:
ومن يك ذا فم مر ...
ولو كان الأستاذ وأمثاله هم في هذا القياس المتر والكيلومتر، لوجب ألا أجد من يذوق كلامي ويعجب به ويغالي فيه ويكون ذنبًا من ذنوبي عند الله بإسرافه في المغالاة، وأنا واجد لكل واحد مثل الأستاذ طه عشرة ومائة من غيره، ولو خرج هو إلى العالم لرأى وسمع، وفيهم من هم أعلى منه كعبًا وأمد عنقًا وأضخم هامة وأبدع بديعًا وأبلغ وأزكى وأعلم إلى عدد من هذه الواوات.

الصفحة 350