كتاب وحي القلم (اسم الجزء: 3)

وعجبت للدكتور يريد أن لا يفهم من عبارتي كما يقول إلا أن "الذوق هو نفس الفهم، فاللفظان يدلان على معنى واحد، وإذن وإذن وإذن..".
فهل يرى إذا قلت له: رأيت القمر وفلانة ليلة كذا فكانت إنما هي القمر -أني أقصد بهما معنى واحدًا فيقول لها: "وإذن" فليسا شيئين مختلفين وإنما هو شيء واحد، وإذن فكيف صار لها وجه في السماء ووجه في الأرض وبقيت مع ذلك امرأة من الإنس؛ وإذن فهذا كلام لا يفهم ...
قال بعضهم إن "لو" تفتح عمل الشيطان، يريد أنها أداة التمني، والمذهب الجديد سيضم "إذن" إلى "لو" ثم ما هي الكلمة الثالثة يا ترى؟
أنا -مع إعجابي بالدكتور الفاضل- أرى أنه مستهتر بأشياء، وأن من خلقه أن ما لا يرضى عنه وما لا يفهمه "ليسا شيئين مختلفين". فإذا لم يكن من الفهم بد قال: إنه لا يقتنع، فإذا ضايقته وضيقت عليه لم يبق إلا ما يقول النحاة في "أي" التي حيرهم إعرابها وبناؤها: أي كذا خلقت ...
وأنا وأمثالي إنما نحرص أشد الحرص على هذه اللغة؛ لأنها أساس الأمة الإسلامية فلا نرضى غلا أن يكون هذا الأساس ثابتًا متينًا لا يزعزعه شيء ولا يثلمه شيء ولا يضعفه شيء؛ والدكتور وأمثاله لا يبالون أن تكون هذه الأمة كبيوت أمريكا المتحركة ...
لست أنكر التجديد، بل لعل الدكتور يذكر مناقشتي إياه في "الجريدة" وإصراره يومئذ أن ليس لأحد أن يدخل في اللغة كلمة، وأن قول الناس تنزه ومتنزه ونزهة الخ كلها منا لكلام العامي، وتعلقه بنص ابن سيده في ذلك، واستخراجي له نص ابن قتيبة وكلامًا كثيرًا من استعمال العلماء، ثم قوله أحسنت، ولكن لو جئتني باللفظة في كلام المبرد والجاحظ وفلان وفلان ما اقتنعت.
إنما أنكر شيئًا واحدًا، وهو أن يقال مذهب قديم ومذهب جديد؛ فقد وسع الله على الناس فيما علموا وفيما جهلوا، ولكن أصحابنا يريدون ألا نكتب إلا نمطًا بعينه، ولا نذهب إلا مذهبًا بعينه؛ لأن كل ذلك هو الجديد؛ فأيهما خير لنا ولهم وللذين سيخرجون تاريخهم من قبورنا: أن نعتد اللغة والأدب كل ما اجتمع من قديم وجديد ونحكم هذه اللغة ونحفظها وندفع عنها ونجعل تجديدها كتجدد الحسناء في أثوابها وفي ألوانها دون تشويه ولا مسخ ولا مس الجسم الجميل، أن تقول: هذه الشفة وهذا الأنف وهذا الموضع الممتلئ الخدل وهذا الموضع

الصفحة 351