كتاب وحي القلم (اسم الجزء: 3)

قولهم: "القتل أنفى للقتل"، وأنا مستيقن أن الكلمة لم تكن وضعت إلى يومئذ*.
ولو أن متمثلًا أراد أن يتمثل بقول أبي تمام فانتزع منه هذا المثل الدم يحرسه الدم"، أيكون حتمًا من الحتم أن يقال له: كلا يا هذا فإن البيت سبع كلمات فلا يصح انتزاع المثل منه ولا بد من قراءة البيت بمصراعيه كما يقول كاتب الكوكب في الآية الكريمة ليزعم أنها لا تقابل الكلمة العربية في الإيجاز؟
إن الذي في معاني الآية القرآنية مما ينظر إلى معنى قولهم القتل أنفى للقتل كلمتان ليس غير، وهما "القصاص، حياة"؛ والمقابلة في المعاني المتمثلة إنما تكون بالألفاظ التي تؤدي هذه المعاني دون ما تعلقت به أو تعلق بها مما يصل المعنى بغيره أو يصل غيره به؛ إذ الموازنة بين معنيين لا تكون إلا في صناعة تركيبهما، ويخيل إلي أن الكاتب يريد أن يقول إن في باقي الآية الكريمة لغو وحشو، فهو حميلة على الكلمتين: القصاص حياة، يريد أن يقولها، ولكنه غص بها، وإلا فلماذا يلج في أنه لا بد في التمثل، أي لا بد في المقابلة، من رد الآية بألفاظها جميعًا؟
فإذا قيل: إنه لا يجوز أن يتغير الإعراب في الآية، ويجب أن يكون المثل منتزعًا منها على التلاوة، قلنا: فإن ما يقابل الكلمة منها حينئذ هو هذا، "في القصاص حياة"، وجملتها اثنا عشر حرفًا، مع أن الكلمة أربعة عشر، فالإيجاز عند المقابلة هو في الآية دون الكلمة.
وأما قوله تعالى: {أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] ، لو كان الكاتب من أولي الألباب لفهمها وعرف موقعها وحكمتها، وأن إعجاز الآية لا يتم إلا بها، إذ أريد أن تكون معجزة زمنية كما سنشير إليه، ولكن أني له وهو من الفن البياني على هذا البعد السحيق، لا يعلم أن آيات القرآن الكريم كالزمن في نسقها: ما فيه من شيء يظهره إلا ومن ورائه سر يحققه.
ثم إن الإيجاز في الكلمة العربية ليس من "الإيجاز الساحر" كما يصفه الكاتب، بل هو عندنا من الإيجاز الساقط؛ وليس من قبيل إيجاز الآية الكريمة ولا يتعلق به فضلًا عن أن يشبهه؛ إذ لا بد في فهم صيغة التفضيل من تقدير المفضل عليه، فيكون المعنى "القتل أكثر نفيًا للقتل من كذا"، فما هو هذا "الكذا" أيها الكاتب المتعثر؟
أليس تصور معنى العبارة وإحضاره في الذهن قد أسقطها ونزل بها إلى
__________
* سنثبت هذا بعد في تعليق على هذه المقالة.

الصفحة 362