كتاب وحي القلم (اسم الجزء: 3)

وغيرهما، بل على الشروع فيه، بل على توجه النية إليه، فلا حرية هنا في عمل يفسد خشب السفينة أو يمسه من قرب أو بعد ما دامت ملججة في بحرها، سائرة إلى غايتها؛ إذ كلمة "الخرق" لا تحمل في السفينة معناها الأرضي، وهنا لفظة "أصغر خرق" ليس لها إلا معنى واحد وهو "أوسع قبر"..
ففكِّر في أعظم فلاسفة الدنيا مهما يكن من حريته وانطلاقه، فهو ههنا محدود على رغم أنفه بحدود من الخشب والحديد تفسرها في لغة البحر حدود الحياة والمصلحة وكما أن لفظة "الخرق" يكون من معانيها في البحر القبر والغرق والهلاك، فكلمة "الفلسفة" يكون من بعض معانيها في الاجتماع الحماقة والغفلة والبلاهة، وكلمة الحرية يكون من معانيها الجناية والزيغ والفساد1، وعلى هذا القياس اللغوي فالقلم في أيدي بعض الكتاب من معانيه الفأس، والكاتب من معانيه المخرب، والكتابة من معانيها الخيانة؛ قال لي الحديث: أفهمت؟
هكذا يجب تأمل الجمال الفني في كلامه صلى الله عليه وسلم، فهو كلام كلما زدته فكرًا
__________
1 الزائغون في التاريخ الإسلامي كله صنفان ليس لهما ثالث، وقد وصفهما الحديث الذي رواه البخاري بسنده إلى حذيفة بن اليمان قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله: إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: "نعم". قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: "نعم وفيه دخن". قلت: وما دخنه؟ قال: "قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر". قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: "نعم، دعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها" قلت: يا رسول الله، صفهم لي. قال: "هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا". قلت: يا رسول الله، فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: "تلزم جماعة المسملين وإمامهم". قلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: "فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك". انتهى الحديث.
فتأمل قوله: "يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر"؛ فهؤلاء هم الذين يريدون الإصلاح للمسلمين لا من طريق الإسلام بل من طرق أخرى فيها معروفها ومنكرها، وفيه علمها وجهلها، وفيها عقلها وحماقتها. ولعل من هذا قولهم: المدينة الأوروبية بحسناتها وسيئاتها ... وتأمل قوله: "إلى أبواب جهنم" فليست الدعوة إلى باب واحد بل إلى أبواب مختلفة لعل آخر ما فتحوا منها باب الأدب المكشوف ...
ثم تأمل قوله صلى الله عليه وسلم: "ولو أن تعض بأصل شجرة" فإن معناه استمساك بما بقي على الطبيعة السليمة مما لا يستطيع أولئك أن يغيروه ولا أن يجددوه، أي بالاستمساك ولو بأصل واحد من قديم الفضيلة والإيمان، وعبارة العض شجرة تمثل أبدع وأبلغ وصف لمن يلزم أصول الفضائل في هذا الزمن، ومبلغ ما يعانيه في التمسك بفضيلته، وهي وحدها فن كأجمل ما يبدعه مصور عبقري.

الصفحة 6