كتاب وحي القلم (اسم الجزء: 3)

زادك معنى، وتفسيره قريب، قريب كالروح في جسمها البشري، ولكنه بعيد بعيد كالروح في سرها الإلهي، فهو معك على قدر ما أنت معه، إن وقفت على حد وقف، وإن مددت مد، وما أديت به تأدى، وليس فيه شيء مما تراه لكل بلغاء الدنيا من صناعة عبث القول، وطريقة تأليف الكلام، واستخراج وضع من وضع، والقيام على الكلمة حتى تبيض كلمة أخرى ... والرغبة في تكثير سواد المعاني، وترك اللسان يطيش طيشه اللغوي يتعلق بكل ما عرض له، ويحذر الكلام على معاني ألفاظه، ويجتلب له منها ويستكرهها على أغراضه، ويطلب لصناعته من حيث أدرك وعجز، ومن حيث كان ولم يكن؛ إنما هو كلام قيل؛ لتصير به المعاني إلى حقائقها، فهو من لسان وراءه قلب، وراءه نور، وراءه الله جل جلاله؛ وهو كلام في مجموعة كأنه دنيا أصدرها صلى الله عليه وسلم عن نفسه العظيمة، لا تبرح ماضية في طريقها السوي على دين الفطرة؛ فلا تتسع لخلاف، ولا يقع بها التنافر؛ والخلاف والتنافر إنما يكونان من الحيوانية المختلفة بطبيعتها؛ لقيامها على قانون التنازع تعدو به وتجترم وتأثم، فهي نازلة إلى الشر، والشر بعضه أسفل من بعض؛ أما روحانية الفطرة فمتسقة بطبيعتها، لا تقبل في ذاتها افتراقًا ولا اختلافًا؛ إذ كان أولها العلو فوق الذاتية، وقانونها التعاون على البر والتقوى؛ فهي صاعدة إلى الخير، والخير بعضه أعلى من بعض.
فكلامه صلى الله عليه وسلم مجرى عمله: كله دين وتقوى وتعليم، وكله روحانية وقوة وحياة؛ وإنه يخيل إلي وقد أخذت بطهره وجماله أن من الفن العجيب أن يكون هذا الكلام صلاة وصيامًا في الألفاظ.
أما أسلوبه صلى الله عليه وسلم فأجد له في نفسي روح الشريعة ونظامها وعزيمتها، فليس له إلا قوة قوة أمر نافذ لا يختلف، وإن له مع ذلك نسقًا هادئًا هدوء اليقين، مبينًا بيان الحكمة، خالصًا خلوص السر، واقعًا من النفس المؤمنة موقع النعمة من شاكرها؛ وكيف لا يكون كذلك وهو أمر الروح العظيمة الموجهة بكلمات ربها ووحيه؛ ليتوجه بها العالم كأنه منه مكان المحور: دورته بنفسه هي دورته بنفسه وبما حوله، روح نبي مصلح رحيم، هو بإصلاحه ورحمته في الإنسانية، وهو بالنبوة فوقها، وهو بهذه وتلك في شمائله وطباعه مجموع إنساني عظيم لو شبه بشيء لقيل فيه: إنه كمجموع القارات الخمس لعمران الدنيا.
ومن درس تاريخه صلى الله عليه وسلم وأعطاه حقه من النظر والفكر والتحقيق، رأى نسقًا من التاريخ العجيب كنظام فلك من الأفلاك موجه بالنور في النور من حيث يبدأ

الصفحة 7