كتاب وحي القلم (اسم الجزء: 3)

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وقال الثالث: اللهم إني استأجرت فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله، أدِّ إليَّ أجري. فقلت له: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق! فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي! فقلت: إني لا أستهزئ بك! فأخذه كله فاستاقه فلم يترك شيئًا. اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه! فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون". انتهى الحديث.
وأنا فلست أدري، أهذا هو النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم في الإنسانية وحقوقها بكلام بيِّن صريح فلا فلسفة فيه، يجعل ما بين الإنسان والإنسان من النية هو ما بين الإنسان وربه من الدين؛ أم هي الإنسانية تنطق على لسانه بهذا البيان العالي، في شعر من شعرها ضاربة فيه الأمثال، مشيرة فيه إلى الرموز، واضعة إنسانها بين شدة الطبيعة ورحمة الله، محكمة عناصر روايتها الشعرية، محققة في بيانها المكشوف أغمض معانيها في فلسفة الحاسة الإنسانية حين تتصل بأشيائها فتظهر الضرورة البشرية وتختفي الحكمة، وفلسفة الروح حين تتصل بهذه الأشياء ذاتها فتظهر الحكمة وتختفي الضوررة -مبينة أثر هذه وتلك في طبيعة الكون، مقررة أن الحقيقة الإنسانية العالية لن تكون فيما ينال الإنسان من لذته، ولا فيما ينجح من أغراضه، ولا فيما يقنعه من منطقه، ولا فيما يلوح من خياله، ولا فيما ينتظم من قوانينه؛ بل هي السمو على هذه الحقائق الكاذبة كلها، وهي الرحمة التي تغلب على الأثرة فيسميها الناس برًا، والرحمة التي تغلب على الشهوة فيسميها الناس عفة، والرحمة التي تغلب على الطمع فيسميها الناس أمانة؛ وهي في ضبط الروح لثلاث من الحواس: حاسة الدعة التي يقوم بها حظ الخمول، وحاسة اللذة التي يقوم بها حظ الهوى، وحاسة التملك التي يقوم بها حظ القوة.
وتزيد الإنسانية على ذلك في نسق شعرها أنها تثبت أن البر من العفة والأمانة هو على إطلاقه كالأساس لهما؛ فمن نشأ على بر أبويه كان خليقًا أن يتحقق بالعفة والأمانة، وأن العفة من الأمانة والبر هي مساكهما وجامعتهما في النفس، وأن الأمانة من البر والعفة هي كمال هذه الفضائل، وكلهن درجات لحقيقة واحدة، غير أن بعضها أسمى من بعض في الشأن والمنزلة، وبعضها طريق لبعض يجر سبب منها سببًا منها، وأن الرحمة الإنسانية التي هي وحدها الحقيقة الكبرى إنما هي هذا الحب، بادئًا من الولد لأبويه، وهو الحب الخاص؛ ثم من المحب لحبيبته، وهو

الصفحة 9