كتاب أسنى المطالب في شرح روض الطالب (اسم الجزء: 3)

بِأَنَّ سَيِّدَ النَّاسِ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ عَلَيْهِمْ وَالْمُطَاعُ فِيهِمْ، قَالَ: وَلَوْ أَوْصَى لِأَعْلَمِ النَّاسِ صُرِفَ إلَى الْفُقَهَاءِ لِتَعَلُّقِ الْفِقْهِ بِأَكْثَرِ الْعُلُومِ.

(وَإِنْ أَوْصَى لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَجَبَ لِكُلٍّ) مِنْهُمَا (النِّصْفُ) فَلَا يُقَسَّمُ ذَلِكَ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ (أَوْ لِأَحَدِهِمَا دَخَلَ) فِيهِ (الْآخَرُ) فَيَجُوزُ الصَّرْفُ إلَيْهِمَا (أَوْ لِلرِّقَابِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأَصْنَافِ أَوْ لِلْعُلَمَاءِ لَمْ يَجِبْ الِاسْتِيعَابُ بَلْ يُسْتَحَبُّ) عِنْدَ الْإِمْكَانِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ إذَا فَرَّقَهَا الْمَالِكُ (وَيَكْفِي ثَلَاثَةٌ) مِنْ كُلِّ صِنْفٍ، أَيْ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ، وَلَا تَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ (بِخِلَافِ بَنِي زَيْدٍ وَ) بَنِي (عَمْرٍو فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ اسْتِيعَابُهُمْ) بِأَنْ يُقَسَّمَ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ كَمَا أَفَادَهُ كَلَامُ الْأَصْلِ (وَإِنْ دَفَعَ لِاثْنَيْنِ غَرِمَ لِلثَّالِثِ أَقَلَّ مُتَمَوَّلٍ) لِأَنَّهُ الَّذِي فَرَّطَ فِيهِ لَا الثُّلُثُ (وَلَا يَصْرِفُهُ) أَيْ أَقَلُّ مُتَمَوَّلٍ لِلثَّالِثِ (بَلْ يُسَلِّمُهُ لِلْقَاضِي لِيَصْرِفَهُ) لَهُ بِنَفْسِهِ (أَوْ يَرُدُّهُ) الْقَاضِي (إلَيْهِ لِيَدْفَعَهُ) هُوَ، قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَيُشْبِهُ أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ مَا إذَا دَفَعَ لِاثْنَيْنِ عَالِمًا بِأَنَّهُ يَجِبُ الدَّفْعُ إلَى ثَلَاثَةٍ، أَمَّا لَوْ ظَنَّ جَوَازَهُ لِجَهْلٍ أَوْ اعْتِقَادِ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ فَالْمُتَّجَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِقْلَالُ بِالدَّفْعِ لِثَالِثٍ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى أَمَانَتِهِ وَإِنْ أَخْطَأَ وَضَمَّنَّاهُ، قَالَ: وَلَمْ يَذْكُرُوا الِاسْتِرْدَادَ مِنْ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِمَا إذَا أَمْكَنَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ بَلْ مُتَعَيِّنٌ إذَا كَانَ الْوَصِيُّ مُعْسِرًا وَلَيْسَ كَالْمَالِكِ فِي دَفْعِ زَكَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ ثَمَّ مُتَبَرِّعٌ بِمَالِهِ، وَالْوَصِيُّ هُنَا مُتَصَرِّفٌ عَلَى غَيْرِهِ.
(وَيَجُوزُ نَقْلُ الْمُوصَى بِهِ لِلْفُقَرَاءِ) أَوْ الْمَسَاكِينِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ (بِخِلَافِ الزَّكَاةِ) لِأَنَّ الْأَطْمَاعَ لَا تَمْتَدُّ إلَى الْوَصِيَّةِ امْتِدَادَهَا إلَى الزَّكَاةِ كَمَا مَرَّ فِي بَابِ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ؛ إذْ الزَّكَاةُ مَطْمَحُ نَظَرِ الْفُقَرَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مُوَظَّفَةٌ دَائِرَةٌ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ، وَلِهَذَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهَا بِفُقَرَاءِ سَائِرِ الْبِلَادِ (فَإِنْ رَقَّ الْمُكَاتَبُ) بَعْدَ أَخْذِهِ مِنْ الْوَصِيَّةِ (اُسْتُرِدَّ) مِنْهُ (الْمَالُ إنْ كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِهِ أَوْ يَدِ سَيِّدِهِ. فَرْعٌ)
لَوْ (أَوْصَى لِفُقَرَاءِ بَلَدٍ) بِعَيْنِهِ (مَحْصُورِينَ اُشْتُرِطَ قَبُولٌ) مِنْهُمْ (وَاسْتِيعَابٌ) لَهُمْ (وَتَسْوِيَةٌ) بَيْنَهُمْ لِتَعَيُّنِهِمْ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِمُطْلَقِ الْفُقَرَاءِ (أَوْ) أَوْصَى (لِسَبِيلِ الْبِرِّ أَوْ الْخَيْرِ) أَوْ الثَّوَابِ (فَكَمَا فِي الْوَقْفِ) وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ، ثُمَّ (فَإِنْ فَوَّضَ) الْمُوصِي أَمْرَ الْوَصِيَّةِ (إلَى الْوَصِيِّ) كَأَنْ قَالَ لَهُ ضَعْ ثُلُثِي حَيْثُ رَأَيْتَ أَوْ فِيمَا أَرَاك اللَّهُ (لَمْ يُعْطِ نَفْسَهُ) وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا، كَمَا أَنَّ الْوَكِيلَ فِي الْبَيْعِ لَا يَبِيعُ لِنَفْسِهِ (بَلْ أَقَارِبُ الْمُوصِي الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ) مِنْهُ (أَوْلَى) بِالصَّرْفِ إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ فِيهِمْ آكَدُ (ثُمَّ) الْأَوْلَى أَنْ يُصْرَفَ (إلَى مَحَارِمِهِ مِنْ الرَّضَاعِ ثُمَّ إلَى جِيرَانِهِ) الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ أَمَّا أَقَارِبُهُ الَّذِينَ يَرِثُونَ مِنْهُ فَلَا يَصْرِفُ إلَيْهِمْ شَيْئًا وَإِنْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إذْ لَا يُوصَى لَهُمْ عَادَةً، قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: وَيَمْتَنِعُ الصَّرْفُ إلَى عَبْدِ الْمُوصِي.

(وَإِنْ أَوْصَى لِأَقَارِبِ زَيْدٍ أَوْ رَحِمِهِ وَجَبَ اسْتِيعَابُهُمْ) وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ (إنْ انْحَصَرُوا) لِتَعَيُّنِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَنْحَصِرُوا فَكَالْوَصِيَّةِ لِلْعُلْوِيَّةِ وَسَيَأْتِي (وَلَوْ لَمْ يَكُنْ) مِنْهُمْ (إلَّا وَاحِدٌ أُعْطِيَ الْكُلَّ) لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْقَرَابَةِ وَالرَّحِمِ مَصْدَرٌ يُوصَفُ بِهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، وَعَلَّلَ الْإِمَامُ صُورَةَ الْجَمْعِ بِأَنَّ الْجَمْعَ لَيْسَ مَقْصُودًا هُنَا، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الصَّرْفُ إلَى جِهَةِ الْقَرَابَةِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: لَكِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا وَجَبَ الِاسْتِيعَابُ كَالْوَصِيَّةِ لِلْفُقَرَاءِ (وَيَدْخُلُ) فِي الْوَصِيَّةِ لِأَقَارِبِ زَيْدٍ أَوْ رَحِمِهِ (الْوَارِثُ وَغَيْرُهُ، وَالْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ) وَالْمُسْلِمُ (وَالْكَافِرُ) وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالْخُنْثَى، وَالْفَقِيرُ وَالْغَنِيُّ؛ لِشُمُولِ الِاسْمِ لَهُمْ (وَكَذَا) يَدْخُلُ فِيهَا (الْأَجْدَادُ) وَالْجَدَّاتُ (وَالْأَحْفَادُ كُلُّهُمْ لَا الْأَبَوَانِ وَالْأَوْلَادُ) ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُعْرَفُونَ بِذَلِكَ عُرْفًا بِخِلَافِ مَنْ قَبْلَهُمْ؛ إذْ قَرِيبُ الْإِنْسَانِ وَرَحِمُهُ مَنْ يَنْتَمِي إلَيْهِ بِوَاسِطَةٍ (وَلَوْ أَوْصَى لِأَقَارِبِ نَفْسِهِ لَمْ تَدْخُلُ وَرَثَتُهُ) بِقَرِينَةِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ لَا يُوصَى لَهُ عَادَةً، وَقِيلَ: يَدْخُلُونَ لِوُقُوعِ الِاسْمِ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يَبْطُلُ نَصِيبُهُمْ لِتَعَذُّرِ إجَازَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَيَصِحُّ الْبَاقِي لِغَيْرِهِمْ وَالتَّرْجِيحُ مِنْ زِيَادَتِهِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْمِنْهَاجُ كَأَصْلِهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ تَعْلِيلِ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ جَمِيعُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ: وَإِنْ أَوْصَى لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ إلَخْ) وَلَوْ أَوْصَى بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَقَالَ: لِكُلِّ وَاحِدٍ دِرْهَمٌ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ ثُلُثِهِ إلَّا دُونَ الْأَلْفِ فَهَلْ نَقُولُ: يُرَاعَى الْعَدَدُ فَيُقَسَّطُ الْخَارِجُ عَلَى الْأَلْفِ؟ أَوْ نَقُولُ: إعْطَاءُ الدِّرْهَمِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَقْصُودٌ وَالْعَدَدُ إنَّمَا جَاءَ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ؟ لَمْ أَقِفْ عَلَى نَقْلٍ فِي ذَلِكَ، وَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمِلَةٌ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ يُدْفَعُ لِكُلِّ وَاحِدٍ دِرْهَمٌ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ لِغَرَضِ الْمُوصِي، وَمَا فَضَلَ مِنْ شِقْصِ دِرْهَمٍ يُعْطَى لِشَخْصٍ.

(قَوْلُهُ: أَوْ لِأَحَدِهِمَا دَخَلَ الْآخَرُ) وَيَشْمَلُ الْفَقِيرُ الْمِسْكِينَ وَعَكْسُهُ، الْمِسْكِينُ هُنَا غَيْرُ مِسْكِينِ الزَّكَاةِ فَيَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ هُنَا وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقَّ النَّفَقَةِ عَلَى غَيْرِهِ، فَالنَّظَرُ هُنَا إلَى الِاسْمِ فَقَطْ، وَقِيلَ كَهُوَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ (قَوْلُهُ: قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَيُشْبِهُ إلَخْ) أَشَارَ إلَى تَصْحِيحِهِ (قَوْلُهُ: وَهُوَ ظَاهِرٌ) أَشَارَ إلَى تَصْحِيحِهِ (قَوْلُهُ: بَلْ أَقَارِبُ الْمُوصِي الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ أَوْلَى) قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: هَذَا يُوهِمُ جَوَازَ الصَّرْفِ إلَى الْوَارِثِ، وَقَدْ نَصَّ فِي الْأُمِّ عَلَى امْتِنَاعِهِ فَقَالَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ وَارِثًا لِلْمَيِّتِ. اهـ.

(قَوْلُهُ: أَوْ رَحِمِهِ) أَيْ أَوْ قَرَابَتِهِ أَوْ ذَوِي قَرَابَتِهِ، وَكَتَبَ أَيْضًا: لَوْ أَوْصَى لِمُنَاسِبِ شَخْصٍ فَلِمَنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ مِنْ أَوْلَادِهِ لَا الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، أَوْ لِمَنْ يُنَاسِبُهُ دَخَلَ الْآبَاءُ وَالْحَوَاشِي، وَفِي الْأُمِّ وَالْجَدَّاتِ مُطْلَقًا وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا عَدَمُ دُخُولِهِنَّ فِي الْوَصِيَّةِ، وَلَا تَدْخُلُ الْأَخْوَالُ وَالْخَالَاتُ وَالْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ (قَوْلُهُ: وَالْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ) اسْتَشْكَلَ السُّبْكِيّ دُخُولَ الْبَعِيدِ فِي لَفْظِ (الْأَقَارِبِ) ؛ لِأَنَّ مُفْرَدَهُ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَيُجَابُ عَنْ الْإِشْكَالِ بِأَنَّا لَوْ اقْتَصَرْنَا عَلَى مَعْنَى التَّفْضِيلِ لَمْ تَصْدُقْ الْأَقَارِبُ إلَّا عَلَى جَمْعٍ هُمْ أَقْرَبُ إلَى الشَّخْصِ مِنْ غَيْرِهِمْ مَعَ اشْتِرَاكِهِمْ، وَالْعُرْفُ يَأْبَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهَا «لَمَّا نَزَلَتْ صَعِدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِي: يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ لِبُطُونِ قُرَيْشٍ.» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الْبُخَارِيِّ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ» أَوْ كَلِمَةٌ نَحْوُهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قُرَيْشًا كُلَّهَا عَشِيرَتُهُ الْأَقْرَبُونَ، وَلَعَلَّ سَبَبَهُ أَنَّ بَنِي آدَمَ كُلَّهُمْ قَرَائِبُ، وَلَكِنْ إنْ بَعُدَتْ الْقَرَابَةُ حَتَّى انْقَطَعَتْ وَلَمْ تُعْرَفْ لَمْ تُعَدَّ قَرَابَةً، وَإِنْ عُرِفَتْ عُدَّتْ قَرَابَةً وَأُطْلِقَ لَفْظُ الْأَقْرَبِينَ وَالْأَقَارِبِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ مِنْ غَيْرِهَا.

الصفحة 52