كتاب الإحاطة في أخبار غرناطة (اسم الجزء: 3)

موقف حشمة وحياء، فما مثلي فيما أعرضه عليك، أو أقدّمه من هذا الهذر بين يديك، إلّا مثل من أهدى الخرز لجالب الدّرّ، أو عارض للوشل موج البحر، أو كاثر بالحصى عدد الأنجم الزّهر، على أني لو نظمت الشّعرى شعرا، وجئتك بالسّحر الحلال نظما ونثرا، ونافحتك بمثل تلك الرّوضة الأدبية التي تعبق أزاهرها نثرا، لما وصفتك ببعض البعض من نفائس حلاك، ولا وفّيت ما يجب من نشر مآثر علاك.
فما عسى أن أقول في تلك المآثر العلمية، والذّات الموسومة باسم التعريف والعلميّة، أو أعبّر عنه في وصف تلك المحاسن الأدبية، والمفاخر الحسبيّة. إن وصفت ما لك من شرف الذات، ملت إلى الاختصار وقلت: آية من الآيات، وإن ذهبت إلى ذكر مفاخرك الباهرة الآيات، بلغت في مدى الفخر والحسب إلى أبعد الغايات، وإن حلّيتك ببعض الحلى والصّفات، سلبت محاسن الرّوض الأريج النّفحات. فكم لك من التّصانيف الرائقة، والبدائع الفائقة، والآداب البارعة، والمحاسن الجامعة. فما شئت من حدائق ذات بهجة كأنما جادتها سحب نيسان، وجنّات ثمراتها صنوان وغير صنوان، تزري ببدائع بديع الزّمان، وتخجل الروض كما يخجل الورد ابتسام الأقحوان. نظم كما انتثر الدّرّ، ونثر تتمنّى الجوزاء أن تتقلّده والأنجم الزّهر، ومعان أرقّ منّ نسيم الأسحار، تهبّ على صفحات الأزهار. فأهلا بك يا روضة الآداب، وربّ البلاغة التي شمس آياتها لا تتوارى بالحجاب، فما أنت إلّا حسنة الزّمان، ومالك أزمّة البيان، وسبّاق غايات الحسن والإحسان. وقد وجدت مكان القول ذا سعة في أوصافك، وما في تحلّيك بالفضائل واتّصافك. لكنّي رأيت أني لو مددت في ذلك باع الإطناب، وأتيت فيه بالعجب العجاب، فليس لي إلّا تقصير عن المطاولة وإمساك، والعجز عن درك الإدراك إدراك. إيه أيها السّيّد الأعلى، والفاضل الذي له في قداح الفخر القدح المعلّى، فإنك أمرت أن أعرض عليك لتعريف بنفسي ومولدي، وذكر أشياخي الذين بأنوارهم أقتدي، فعلمت أن هذا إنما هو تهمّم منك بشاني، وجري على معتاد الفضل الذي يقصر عنه لساني، وفضل جميل لا أزال أجري في الثناء عليه ملء عناني. وإلّا فمن أنا في الناس حتى أنسب، أو من يذهب إلّا أنت هذا المذهب؟
أما التّعريف بنفسي، فأبدأ فيه باسم أبي: هو أبو القاسم محمد بن عطية بن يحيى بن عبد الله بن طلحة بن أحمد بن عبد الرحمن بن غالب بن عطية المحاربي. وجدّي عطية هو الدّاخل إلى الأندلس عام الفتح، نزل بإلبيرة، وبها تفرّع من تفرّع من عقبه، إلى أن انتقلوا إلى غرناطة، فتأثّل بها حالهم، واستمرّ بها

الصفحة 429