كتاب مرآة الجنان وعبرة اليقظان (اسم الجزء: 3)

وركب يوم الجمعة الخامس عشر صفر ليلقى الحاج، وكان ذلك آخر ركوبه. ولما كانت ليلة السبت وجد كسلاً عظيماً، غشيته الحمى في أثناء الليل، ولم يظهر ذلك للناس وأثرها ظاهر عليه، ثم أخذ المرض يتزايد إلى أن توفي بعد صلاة الصبح للسابع والعشرين من شهر صفر من السنة المذكورة في أول ترجمته. وكان يوم موته يوماً لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله بعد الخلفاء الراشدين، وغشي القلعة والملك والدنيا وحشة عظيمة، ودفن بمقابر الشهداء بالباب الصغير. ولما أخرج تابوته ارتفعت الأصوات عند مشاهدته، وعظم الضجيج، وأخذ الناس في البكاء والعويل، وصلوا عليه إرسالاً، ثم أعيد إلى الدار التي في البستان، ودفن في الصفة الغربية منها على ما ذكره بعض المؤرخين وذكر بعضهم أنه بقي مدفوناً بقلعة دمشق إلى أن بنيت له قبة شمالية الكلاسة التي هي شمالي جامع دمشق، فنقل إليها في يوم عاشوراء - كان يوم الخميس من سنة اثنتين وتسعين وخمس مائة - ورتب عنده القراء ومن يخدم المكان وأنشد في آخر سيرته بيت أبي تمام.
ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام
تغمده الله تعالى برحمته، كان من محاسن الدنيا وغرائبها. ومن مصالح الأمور الدينية، ودفع نوائبها، وذكر بعضهم أنه لم يخلف في خزائنه ذهباً ولا فضة سوى سبعة وأربعين درهماً مصرية وخرصاً واحداً من الذهب صورياً، ولم يخلف ملكاً ولا داراً ولا عقاراً ولا مزرعة ولا بستاناً. وفي ساعة موته كتب القاضي الفاضل إلى والد الملك الظاهر صاحب حلب بطاقة مضمونها رسالة بديعة مشتملة على معان رفيعة مع الإيجاز الفائق والنطق الرائق، في حالة يذهل فيها الإنسان عن نفسه، والخطب الذي صير الضرغام في رمسه، وهي: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، إن زلزلة الساعة شيء عظيم، كتبت إلى مولانا السلطان الملك الظاهر أحسن الله عزاه وجبر مصابه وجعل فيه الخلف - في الساعة المذكورة، وقد زلزل المسلمون زلزالاً شديداً، وقد حفرت الدموع المحاجر، وبلغت القلوب الخناجر، وقد ودعت أباك ومخدومي وداعاً لا تلاقي بعده، وقد قبلت وجهه عني وعنك، وأسلمته إلى الله تعالى مغلوب الحيلة ضعيف القوة راضياً عن الله تعالى، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وبالباب من الجنود المجندة والأسلحة المغمدة ما لا يدفع البلاء ولا يملك رد القضاء. ويدمع العين ويخشع القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا عليك يا يوسف لمحزونون. وأما الوصايا فما يحتاج إليها، والآراء فقد شغلني المصاب عنها، وأما لائح الأمر فإنه إن وقع

الصفحة 350