كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 3)

صفحة رقم 452
بأنهم إذا ذاقوا مس العذاب وأخذتهم فواجئه الصعاب شغلتهم دواهيه عن العناد واضطرتهم أهواله إلى سهل الانقياد ، فكان في غاية الحسن وضع تقريعهم على الاستعجال عقب الوعيد ، ثم وضع التراخي عن الإيمان بالعناد بعد الإشراف على الهلاك ومعانيه التلف ، فكان كأنه قيل : أخبروني على تقدير ان يأتيكم عذابه الذي لا عذاب أعظم منه - كما دل ذلك إضافته إليه - فبيتكم أو كاشفكم ، ما تفعلون ؟ ألا تؤمنون ؟ فقالوا لا ، فليعجل به ليرى ، فناسب لما كان استعجالهم بعد هذا الإنذار تسفيههم على ذلك فقيل ) ماذا ) أي أي نوع منه يطلب عجلته ) المجرون ( ، ولا نوع منه الإ وهو فوق الطاقة ووراء الوسع ، إن هذا لمنكر من الآراء ، أفبعد تراخي إيمانكم عن مخايل صدمته ومشاهدة مبادئ عظمته وشدته أوجدتم الإيمان به عند وقوعه ؟ يقال لكم حين اضطرتكم فواجئه إلى الإيمان وحملتكم قوارعه على صيورة الإذعان : ( آلئن ( تؤمنون به - أي بسببه - بعد أن أزال بطشاً قواكم وحل عزائم هممكم وأوهاكم ) وقد كنتم ) أي كوناً كأنكم مجبولون عليه ) به يستعجلون ) أي تطلبون تعجيله طلباً عظيماً حتى كأنكم لاتطلبون عجله شيء غيره تكذيباً وعزماً علىالثبات على العناد ، لو وقع فلم نقبل إيمانكم هذا منكم ولا كف عذابنا عنكم ، بل صيركم كأمس الدابر .
ولما كان ما ذكر هو العذاب الدينوي ، أتبعه ما بعده إعلاماً بأنه لا يقتصر عليه في جزائهم فقال : ( ثم قيل ) أي من أيّقائل كان استهانه ) للذين ظلموا ) أي وبعد أزّكم في الدنيا والبرزخ بالعذاب وهزّكم بشديد العقاب قيل لكم بوم الدين بظلمكم بالآيات وبما أمرتم به فيها بوضعكم كلاَّ منذلك في غير موضعه : ( ذوقوا عذاب الخلد ( فالإتيان ب ( ثم ) إشارة إلى تراخي ذلك عن الإهلاك في الدنيا بالمكث في البرزخ أو إلى أن عذابه أدنى من عذاب يوم الدين ) هل تجزون ( بناه للمفعول لأن المخيف مطلق الجزاء ؛ ولما كان الاستفهام الإنكاري بمعنى النفي ، وكان المعنى : بشيء ، استثنى منه فقال : ( إلا بما كنتم ) أي بجبلاتكم ) تكسبون ) أي في الدنيا من العزم على الاستمرار على الكفر ولو طال المدى لاتنفكون عنه بشيء من الأشياء وإن عظم ، فكان جزاءكم الخلود في العذاب طبق النعل بالنعل ؛ والعذاب : الألم المستمر ، وأصله طلب الطعم بالفم في ابتداء الأخذ .
ولما انقضى ما اشتملت عليه الآية من التهديد وصادع الوعيد ، أخبر تعالى أنهم صاروا إلى ما هو جدير بسامع ذلك من النزول عن ذلك العناد إلى مبادئ الانقياد بقوله تعالى : ( ويستنبئونك ( عطفاً على قوله ( ويقولون متى هذا الوعد ) أي ويطلبون منك

الصفحة 452