كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 3)

صفحة رقم 590
ولما كان مثل هذه الآيات ربما أوهم أن إيمان مثل هؤلاء مما لا يدخل تحت المشيئة ، نفى ذلك الوهم مبيناً انفكاك المشيئة عن الأمر بقوله : ( ولو شاء ربك ( اي المحسن إليك بكل إحسان يزيدك رفعة ) لجعل الناس ) أي كلهم ) أمة واحدة ( على الإصلاح ، فهو قادر على أن يحعلهم كلهم مصلحين متفقين على الإيمان فلا يهلكهم ، ولكنه لم يشأ ذلك ، بل شاء اختلافهم والأمر تابع لمشيئة فاختلفوا ) ولا يزالون مختلفين ( اي ثابتاً اختلافهم لكونهم على أديان شتى ) إلا من رحم ربك ) أي المحسن إليك بالتأليف بينهم في جعلهم من أهل طاعتك فإنهم لا يختلفون في أصول الحق .
ولما كان ما تقدم رما أوجب أن يقال : لمَ لم يُقبل بقلوبهم إلى الهدى ويصرفهم عن موجبات الردى إذا كان قادراً ؟ قال تعالى مجيباص عن ذلك : ( ولذلك ) أي الاختلاف ) خلقهم ) أي اختراعهم وأوجدهم من العدم وقدرهم ، وذلك أنه لما طبعهم سبحانه على خلائق نم الخير والشر تقتضي الاختلاف لتفاوتهم فيها ، جعلوا كأنهم خُلقوا له فجروا مع القضاء والقدر ، ولم يمكنهم الجري على ما تدعو إليه العقول في أن الاتفاق رحمة والاختلاف نقمة ، فاستحق فريق منهم النار وفريق جنة ، وليس ذلك مخالفاً لقوله تعالى :
77 ( ) وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ( ) 7
[ الذريات : 56 ] بل هومن شكله ، اي أنه تعالى لما ركبهم على العجز ومنحهم العقول مع نصب الأدلة ، كان ذلك مهيئاً للعبادة فكانوا كأنهم ما خلقوا إلا لها اي ما خلقتهم إلا ليعرفون بنفوذ أقضيتي وتصاريفي فيهم فيعبدون ، أي خاضعاً للأمر لنفوذه فيه وعجزه عن الامتناع كما قال تعالى
77 ( ) ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً ( ) 7
[ الرعد : 15 ] ، فقد بان أن خلقهم للعبادة فقط ينافي خلقهم للاختلاف ، لأن جريهم في قضائه بالاختلاف عبادة وسود لغة ، وذلك أن مادتي عبد وسجد تدوران على الخضوع والذل والانقياد ، وبذلك كان الكل عبيد الله ، أو الإشارة إلى مجمع الاتفاق والاختلاف ليظهر فضله على من ثبتهم ويظهر عدله فيمن خذلهم .
ولما كان هذا الاختلاف سبب الكفر الذي ارسل رسله بالقتال عليه ، كان ربما ظن أنه بغير مشيته ، فين أنه هو بمراده ولا اعتراض عليه فقال : ( وتمت ) أي فبادروا إلى ما خلقهم لهم معرضين عن أوامره ولم تغن عنهم عقولهم ، وتمت حينئذ ) كلمت ربك ) أي المحسن إليك بقهر أعدائك التي سبقت في الأزل وهي وعزتي ) ملأن جهنم ) أي لتي تلقى المعذب فيها بالتجهم والعبوسة ) من الجنة ) أي قبيل الجنن قدمهم لأنهم اصل في الشر ، ثم عم فقال : ( والناس أجمعين ( فمشوا على ما أراد

الصفحة 590