كتاب فيض الباري على صحيح البخاري (اسم الجزء: 3)

وحاصله: أن قميصَ الميت لا يجب أن يكون مِثْل الحيّ، بل يجوزُ مكفوفًا أو غيرَ مكفوف، بخلاف قميص الحيّ، فإنه يكونُ مكفوفًا (ترباهوا). وهذا يُشْعِر بأن القميصَ في ذِهْنه يكون مَخِيطًا، وهو ظَاهِرُ فِقْهِ الحنفية، وإنْ كان العملُ بخلافِهِ، كما مرَّ معنا البحث فيه.
1269 - قوله: (أَعْطِني قَمِيْصَك) ... إلخ. قلتُ: ولا بأسَ بإعطاءِ القميص مُرُوءَةً. وقيل (¬1): أَرَادَ به أن يُكَافىء قميصه الذي كان كَسَاه عباسًا يوم بدر، فإنَّه إذ جاءَ أسيرًا في أُسراءِ بَدْر لم تكن عليه ثيابٌ، وكان طويلَ القامةِ فلم يَصْلُح له غيرُ قميصِ عبدِ اللَّه - فإنه كان طويلا - فكان أعطاه إيَّاه، فأراد النبيُّ صلى الله عليه وسلّم أن يكافئه في الدنيا. وقيل: أَسَلم يومئذٍ أَلْفٌ من المنافقين لأَجْلِ هذا الإحسان.
ثم في «الفتح»: أَنَّ عبدَ الله كان أَوْصَى ابنه - واسمه أيضًا عبد الله - أن يَسْأَل النبيَّ صلى الله عليه وسلّم عن قَميصه ليُكفَّنَ فيه. ولا بُعْد في أن يكون حصل له تصديقٌ اضطراري، ثُم استمرَّ به حتى رَسَخِ ببواطنِهِ قبل وفاته، إلا أنَّ الأُمةَ كافةً لَقَّبته برأس المنافقين. وقد كان حَسَد النبيَّ صلى الله عليه وسلّم في أول أَمْرِهِ، لأن أَهْلَ المدينةِ قبل مَقْدَمِه صلى الله عليه وسلّم كانوا أرادوا أن يجعلُوه رئيسَهم، فَلَمَّا قَدِم النبيُّ صلى الله عليه وسلّم وهاجر إليهم، صار هو الأمير. كيف لا وقد كان أميرًا في الأرواح، وفي مسجد بيت المَقْدِس عند مُجْتَمع النَّبيين وسوف يكون أميرًا في المَحْشَر أيضًا، فلم يزل هذا المنافقُ يغتمُّ له، ثُم اللَّهُ يَدْري إلى ما آل إليه أَمْرُه.
1269 - قوله: (أَنَا بَيْنَ خِيْرَتَيْنِ). وفي الروايات: إني لا أزيدُ على السبعين. ومَرَّ عليه الغزالي رحمه الله تعالى في «المُسْتَصْفَى» ولم يبلغ حَقِيْقَتَهُ وقال: إنَّ الآية لا يُفْهَمُ منها التخييرُ أصلا، فكيف يمكن أن يكون النبيُّ صلى الله عليه وسلّم فَهِمه؟ ثم حكم عليه بالوَضْع. قلتُ: سبحانَ الله، كيف وهو حديثٌ في صحيحِ البخاري؟ والحَلُّ أنه من بابِ البلاغة (¬2)، وهو تلقي المخاطَب بما لا يترقَّب. فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم لما لم يُنْه عن الصلاةِ عليه صراحةً مَشَى على مُحْتَمل اللفظ، وليس فيه
¬__________
(¬1) قال الخطّابي في "معالم السنن" قلت: كان أبو سعيد بن الأعرابي يتأوَّلُ ما كان من تَكفِين النبي - صلى الله عليه وسلم - عبدَ اللهِ بن أُبَي بقميصه على وجهين: أحدهما: أن يكون أرادَ به تَألفَ ابنهِ وإِكرامَه فقد كان مُسْلمًا بريئًا من النفاق، والوجه الآخر: أن عبدَ اللهِ بن أُبيّ كان قد كسَى العَبَّاس بنَ عبد المطلب قميصًا، فأَرادَ - صلى الله عليه وسلم - أن يكافِئه على ذلك لئلا يكونَ لمنافقِ عنده يَدٌ لم يجازِه عليها.
ثم أَخرج عن عَمْرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله يقول: كان العباسُ بنُ عبد المطلب بالمدينة، فطلبتِ الأنصارُ له ثوبًا يكسونَه، فلم يجدُوا قميصًا يصلح عليه إِلا قميصَ عبد الله بن أبي فَكَسوْه إياه.
ثم أَخرج عن عمرِو، سمع جابرَ بنَ عبد الله قال: أَتى رسولُ - صلى الله عليه وسلم - قَبرَ عبد الله بن أبي بعدما أدخِل حُفرَتَه، فأَمر به فأخرج، فوضعه على ركبتيه أو فَخِذيه فَنَفَسَ فيه من رِيقه، وأَلبَسَهُ قَمِيصَهُ. قال الخطابي: احتمل أن يكونَ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّما فعل ذلك قَبل أن يَنْزل قَوْلُه تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84]، واحتمل أن يكون معناه ما ذهب إليه ابن الأَعرابي من التأويل. اهـ مختَصَرًا. ص (298) ج 1.
(¬2) فلا يَبْعُد أن يكون على حد قوله: مِثل الأمير يُحْمَل على الأدْهم والأشْهب، في جواب قوله: لأحملنَّك على الأَدْهم. اهـ.

الصفحة 18