كتاب فيض الباري على صحيح البخاري (اسم الجزء: 3)

الكلياتِ تَصْدُق في مَحَلَ فيصيرُ مجموعُهَا جزئيًا.
والجواب الثاني: أن التعذيب عبارةٌ عن تعبيرِهِ بما أَثْنُوا عليه بعدَهُ، كقول الملائكة لأبي موسى الأشعري عند الترمذي: «أهكذا كنت؟» حين غُشِي عليه وناحَت عليه زَوْجَتُهُ. وأَرْجَحُ الأجوبةِ عندي ما ذكره ابنُ حَزْم رحمه الله: إنَّ أهلَ الجاهليةِ كانوا يَذْكُرونَ في النياحةِ أفعالَ الميت التي تكونُ مِنْ أَعْظَمِ الكبائرِ وموجِبات النار، نحو قولهم: إنَّك قاتَلْتَ فُلانًا فلم تَتْرُك منهم أحدًا، وأَغَرْتَ على فلانٍ إلى غير ذلك من الشنائع. وكانوا يذكرونها افتخارًا وَمَدْحَا للمَيِّت على ظَنِّهم الفاسدِ. وكانت تلك الأشياءُ كُلُّها من أفعالِ الميت، فكان العذابُ من أَجْل أفعالِهَا لا من أجل البكاء. ويوضِّحُهُ ما عند المُصَنِّف رحمه الله في الصفحة الأخرى: إنَّ الميتَ يُعذَّب في قَبْره بما نِيح عليه، وما نِيح هو معاصِيه بِعَيْنَها التي اقترفها وليست مِنْ فِعْل غيره. وهذا أَعْجَب الشُّروح إليَّ.
1284 - قوله: (فَلْتَصْبِر) وفي بعضِ الروايات: «فلتصبري» وفيه دليلٌ على أنَّ «اللام» قد تَدْخُل على الأَمْر الحاضِر أيضًا، كما قاله الكُوفيون خلافًا للبَصْريِّين.
قوله: (تُقْسِمُ عَلَيْهِ) وهو من باب إبرار المُقْسِم فلو كان من لفظها: أَنَّها تُقْسِم عليك أَنَّك لتأتِيَنَّهَا، لا يكونُ واحِدٌ منهما حالِفَا. وإنْ كان: أني أحلِفُ أَنَّك لتأتيني، ويصيرُ المتكلِّم به حالِفَا، ويُستحب إبراره للآخَر. وترجمته في الهندية تقسم عليه آي (واسطه ديتي هين) قال الحافظ رحمه الله تعالى: ثُمَّ بقي هذا الولد حيًّا إلى زمنٍ مع التصريح بدخولِهِ في النَّزْع.
قلتُ: وينبغي أن يُعدَّ هذا من مُعجزاتِهِ صلى الله عليه وسلّم والعَجَب من السُّيوطي رحمه الله تعالى أنه تَمسَّك فيه بروايةٍ تكاد تكونُ موضوعةً، ولو أتى بهذه لكان أحسن، نعم ينبغي للطبيبِ أن يَبْحَث في أنه هل يمكنُ عَوْدُ الروحِ بعد الدخول في النَّزْع أم لا؟ فإن أُمكن فلا يخلو إما أن يَطَّرد ذلك أو لا. وعلى الثاني تكونُ معجزةً، وعلى الأول لا تكون معجزةً لدخوله تحتَ الضابطةِ الطبية. وأما إذا كان لا يمكنُ العَوْدُ أصلا فهو معجزةٌ مُطْلقًا. والذي يظهر من كُتب الطبِّ أن الطَّبْع إذا صار مغلوبًا في البحران يرجِعُ إلى القلبِ كليلا، فإذا رجع إليه قَوِي لكونِ القَلْب مَعْدَن الحياة فيكتسب منه قوةً وجعل يدافِعُ المرضَ حتى يدفَعَه. فهذا يدلُّ على أن العوْدَ بعد النَّزْع ممكنٌ وإن لم يكن مُطَّرِدًا فيكونُ معجزةً في هذه المادة. وقد قال لي بعضُ أقاربي: أني دخلت في النَّزْع مرةً، فرأيتُ أن شيئًا ينزع من قدمي، فإذا بلَغ إلى السُّرّةِ تَفَلَّت وبلغ إلى مَوْضِعه كالبرق، ولم أزل أُحُسُّ كذلك حتى بَقِيْتُ حيًّا.
1285 - قوله: (لَمْ يُقَارِف) والمقارفة الإتيان بما لا ينبغي (ناشايان كام). قال الشارحون رحِمهم الله تعالى: إنَّ عثمانَ رضي الله عنه كان قد جامع بَعْضَ جوارِيه في تلك الليلة وله العُذْر أيضًا، فإنَّ مَرَضَها لما طال وتمادَى ولم يكن يخطر بِبَالِهِ أنها تُتوفَّى في هذه الليلة اشتغل بِمِثْلِهِ، ولكنَّه لما كان مُشْعِرًا بِغَفْلَتِهِ في عدم إقامته بحقِّ التمريض أظهر عنه المَلالَ. ونقل الحافظ رحمه الله تعالى في تفسيره عن الطحاوي: لم يُقاول الليلةَ ثُمَّ رَدَّ عليه.
قلتُ: ليس مَا ذَكَره الطحاوي روايتَه ولا بَدلا عن اللفظ، بل أراد الطحاويُّ رحمه الله

الصفحة 28