كتاب فيض الباري على صحيح البخاري (اسم الجزء: 3)

فسبب الإسلام وإن وجد إلا أن المسبب لم يوجد لأجل المانع لا أن الفطرة لم تكن سببا إلا ترى في الأدوية كيف يتخلف عنها فوائدها لأجل هذه الموانع، فإن قلت: إنَّ الفطْرةَ إذا لم تكن عينَ الإسلام لم يكن في الحديث مَدْحُ الإسلام، مع أنَّ المسوقَ له ذلك. قلت: كيف لا؟ مع دلالته على أنه ليس في فِطرةِ الإِنسان شيءٌ يخالِفُ الإِسلام، أو يَجُرُّه إلى الكُفْر: بل فيها ما يُبْقى به أَقْرَبَ إلى الإِسلام وأَقبلَ له، لولا العوائقُ فهو مَدْحٌ عَظِيم. وهو معنى قولهم: إنَّ الإِسلام دينٌ فِطْري، فإِنْ قلت: إنَّ الفِطْرة إذا كانت عبارةً عن الاستعداد فهو الطَّرفان فما بقي مَدْحُ الإِسلام.
قلت: بلى ولكنَّ استعدادَ الإِسلام قريبٌ، واستعدادَ الكُفْر بعيدٌ لكونِه من جهة الموانِع. فهو مَدْحٌ للإِسلام أي مدح، ولا سيما إذا اسُتدل عليه بِتَمْثيل البهيمة، فإِنْ قلت: فما معنى قولهه صلَّى صلى الله عليه وسلّم «إِنَّ الشقاوةَ والسعادةَ في بَطْن الأم» - بالمعنى، وقول الخَضِر عليه السلام: «طبع يوم طبع كافرًا».
قلت: إن الشقاوةَ والسعادةَ أقربُ إلى التقدير، وهو نحوٌ من عِلْمه تعالى، فيُقَدِّر باعتبارِ ما يؤولُ إليه الحالُ من الكَفحر والإِيمان، والفِطرةُ أقربُ إلى الحسِّ على ما عرفت: أنها عبارةٌ عن خُلُوِّها عما يحضُّه على الكُفْر وعدم اشتمالِها على جُزءه من الكُفْر والإِيمان حِسًّا، فليس في بُنيتِه ومادتِه ما يوجِبُ الكُفْر، وبعبارةٍ أُخْرى أنَّ الْفهطرة تلبس بهيئةٍ لو استُبقي عليها لم يَعْدِل إلى الكُفْر فَخُلُوّه عن الكُفْر مُطْلقًا هو المسمَّى بالفِطْرة، وهو المقدمةُ للإِسلام، وهذا أَمْرُ غير التقدير، بخلاف الشقاوةِ والسعادةِ، فإنَّها عبارةٌ عمَّا عَلِمه اللهُ مما يأتيه بعد البلوغ من حسنة أو سيئة، فإِن أحسنَ إِسلامه يُقَدَّرُ له السعادةُ، وإن أساء تُقَدَّرُ له الشقاوةُ، فيهما يحتمعان مع الفِطْرةِ على حَدِّ قولهم: إنَّ في الهَيُولَى استعدادًا لجميع صُوَر النوعيةِ، مع أنها لا تتناوبُ عليه إلا صورةً بعد صورة، وتكونُ كلُّ منها معدةً للأُخْرى، ولا يمكنُ اجتماعُهَا لتضادها، فإنَّها جواهرُ عندهم. والجواهر عنده متضادةٌ فلا يمكن تواردها إلا بالتناوب، كالماء فإنه يتكون من هواء، فما دام اتصفَ بالصورةِ المائية لم يمكن أن يتصَفَ بالصورةِ الهوائية، إلا أن فيه استعدادً بعيدًا لتلك الصورةِ أيضًا. فإذا سخن الماءُ ازدادَ فيه استعدا الصورةِ الهوائية شيئًا فشيئًا، فإذا تمَّ استعدادُهَا الصورةَ الأُولى وتلبَّس بالأُخْرى.
ولي فيه نَظْم:
*ولادَ الوليد على فِطْرةٍ ... كتكريرِ لَفْظٍ بلا فائدة
*فأبدوا قيودًا وأبديتُهُ ... عرا عن الكُفْرِ أو زائدِهِ
يعني به أن الفطرةَ بمعنى الخِلْقة لغةً، فلا فائدة في ذِكْرِهَا بدون قَيْد، فإنَّه على وزان قولهم: «كلُّ مولودٍ يُخلق على الخِلْقة» ولا معنى له، فلذا أبديتُ فيه قَيْدًا ليكونَ مُفِيْدًا، وهو الخِلْقَةُ المتهيأةُ للإِسلام والخاليةُ عن الكُفْر.
*كجرةٍ تُكْسَرُ من صدمة ... وإلا فتبقى مدى زاهده

الصفحة 69