كتاب قلادة النحر في وفيات أعيان الدهر (اسم الجزء: 3)

اعلما أن الإيمان يمان، والحكمة يمانية، وكل أمر يكون مبدؤه من قبل اليمن فهو ثابت؛ لثبوت نجمه، وقد رأيت أن تخرجا إلى اليمن، وتدعوا أهله إلى ولدي عبيد الله؛ فإنه سيكون لكما به شأن وسلطان، ثم عاهد بينهما وأوصى كلاّ منهما بالآخر، فسارا إلى اليمن في البحر، ثم افترقا من غلافقة، فقصد منصور عدن لاعة، وقصد علي بن الفضل شرق يافع، وأقام كل واحد منهما في ناحية يظهر من الزهد والورع والتقشف والصلاح ما يفتتن به من رآه، حتى صار كل واحد منهما مسموع القول في ناحيته، ثم أمر كل واحد منهما أهل ناحيته بجمع زكاتهم، حتى اجتمع لكل واحد منهما مال عظيم.
وأقام علي بن الفضل متخليا بزعمه للعبادة في رأس جبل من حدود أبين أهله يافع، وكانوا رعاعا، فجعل يريهم أنه يصوم النهار، ويقوم الليل، وإذا أتوه بطعام .. لم يأكل منه، وإن أكل منه .. فشيء يسير، فأحبوه واعتقدوا فيه، وسألوه أن يكون مسكنه بينهم، فقال: لا، إلا أن تأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر، وتجتنبوا المعاصي، وتقبلوا على طاعة الله، فأجابوه إلى ذلك، وأخذ عليهم العهد والميثاق بالطاعة، وأمرهم ببناء حصن في ناحية بلادهم، وأنهبهم أموال أطراف البلاد، وأراهم أن ذلك جهاد للعاصين.
وكان أبين ولحج مالكها ابن أبي العلاء من الأصابح، فغزاه علي بن الفضل بمن معه من يافع، فهزمهم ابن أبي العلاء، وقتل طائفة من أصحاب علي بن الفضل، وانهزم ابن الفضل وبقية أصحابه إلى صهيب، ثم قال لأصحابه: اعلموا أن القوم قد أمنوا منا، وأرى أن نهجم عليهم؛ فإنا نظفر بهم، فوافقوه على ذلك، فلم يشعر ابن أبي العلاء إلا وهم معه بخنفر على حين غفلة، فقتل ابن أبي العلاء وطائفة من عسكره، واستباح ما كان لهم، فوجد في خزانة ابن أبي العلاء سبع مائة ألف درهم.
وعاد إلى بلد يافع، فعظم شأنه، وشاع ذكره، ثم قصد المذيخرة وبها يومئذ جعفر بن إبراهيم المناخي وهو الذي ينتسب إليه مخلاف جعفر، فجمع له المناخي جموعه، والتقوا بنقيل البردان في رمضان سنة إحدى وتسعين ومائتين، فانهزم علي بن الفضل، وعاد إلى بلاد يافع، ثم قصد المذيخرة مرة أخرى في صفر من سنة اثنتين وتسعين ومائتين، فانهزم جعفر المناخي إلى تهامة، فأمده صاحبها إسحاق بن إبراهيم بن محمد بن زياد بجيش كثيف، فالتقى هو وعلي بن الفضل بوادي نخلة، فقتل جعفر بن إبراهيم وأصحابه آخر يوم من رجب كما تقدم، فاستولى علي بن الفضل على بلاد المناخي، وجعل المذيخرة مستقر ملكه، وقويت شوكة القرامطة.

الصفحة 14