كتاب منتهى السؤل على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول (ص) (اسم الجزء: 3)

179- «كلّموا النّاس.. بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون» .
فائدة: قال الرّاغب: لما احتاج النّاس بعضهم لبعض سخّر كلّ واحد منهم لصناعة ما يتعاطاه، وجعل بين طبائعهم وصنائعهم مناسبات خفيّة واتّفاقات سماويّة؛ ليؤثر الواحد بعد الواحد حرفة ينشرح صدره بملابستها، وتطيعه قواه لمزاولتها، فإذا جعل إليه صناعة أخرى ربّما وجده مستبلدا فيها، متبرّما منها، سخّرهم الله لذلك؛ لئلّا يختاروا كلهم صناعة واحدة، فتبطل الأقوات والمعاونات، ولولا ذلك ما اختاروا من الأسماء إلّا أحسنها، ومن البلاد إلا أطيبها، ومن الصّناعات إلا أجملها، ومن الأفعال إلّا أرفعها، ولتنازعوا فيه، لكنّ الله بحكمته جعل كلّا منهم في ذلك مخيّرا.
فالنّاس؛ إمّا راض بصنعته لا يبغي عنها حولا؛ كالحائك الّذي رضي بصناعته ويعيب الحجّام الّذي يرضى بصناعته، وبذلك انتظم أمرهم وكُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) [المؤمنون] . وإمّا كاره لها يكابدها مع كراهته إيّاها، كأنّه لا يجد عنها بدلا. وعلى ذلك دلّ هذا الحديث: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ [32/ الزخرف] .
فالتّباين والتّفرق والاختلاف سبب الالتئام والاجتماع والاتّفاق، فسبحان الله ما أحسن صنعه!. انتهى مناوي على «الجامع» .
والحديث ذكره في «الجامع الصّغير» مرموزا له برمز الإمام أحمد، والشّيخين: البخاري ومسلم، وأبي داود؛ عن عمران بن حصين.
والتّرمذي؛ عن عمر بن الخطّاب.
والإمام أحمد؛ عن أبي بكر الصّدّيق رضي الله تعالى عنهم. أجمعين.
179- ( «كلّموا النّاس بما يعرفون) ؛ أي: بما يفهمونه وتدركه عقولهم، لأنّ العقول لا تحتمل إلّا على قدر طاقتها، فلها حد محدود لا تتعدّاه، وشرّ العلم الغريب؛ (ودعوا ما ينكرون» ) ؛ أي: ما يشتبه عليهم فهمه؛ لأنّ السّامع لما لا يفهمه قد يعتقد استحالته جهلا؛ فلا يصدق بوجوده.

الصفحة 474