كتاب الفصول في الأصول (اسم الجزء: 3)

لِنَفْسِهَا، وَهُوَ إنَّمَا (يَسْأَلُ عَنْ) التَّقْلِيدِ لِمَ قُلْت: إنَّهُ حُجَّةٌ.
فَإِنْ قَالَ: هَذَا يَرْجِعُ عَلَيْك فِي قَوْلِك بِحُجَجِ الْقَوْلِ، لِأَنَّا نَقُولُ لَك: أَثْبِتْ حُجَّةَ الْعَقْلِ بِالْعَقْلِ أَوْ بِغَيْرِهِ.
فَإِنْ قُلْت: أُثْبِتُهَا بِغَيْرِ الْعَقْلِ، قُلْنَا لَك: فَأَظْهِرْهُ.
وَإِنْ قُلْت: أُثْبِتُهَا بِالْعَقْلِ، فَفِي هَذَا نُوزِعْت، وَإِنَّمَا جَعَلْت الْمَسْأَلَةَ دَلِيلًا لِنَفْسِهَا.
قِيلَ لَهُ: أَوَّلُ مَا فِي هَذَا: أَنَّ اعْتِرَاضَك بِهِ احْتِجَاجٌ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، وَمُنَاظَرَةٌ مِنْك فِي إفْسَادِ الْمَذْهَبِ، وَفِي ذَلِكَ إثْبَاتٌ مِنْك لِحُجَّةِ الْعَقْلِ، فَأَنْتَ مِنْ حَيْثُ أَرَدْت نَفْيَهَا أَثْبَتّهَا، وَنَاقَضْت فِي قَوْلِك، عَلَى أَنَّا نُجِيبُك إلَى سُؤَالِك، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْنَا لَك بِحَقِّ النَّظَرِ. فَنَقُولُ: إنَّا أَثْبَتْنَا دَلَائِلَ الْعُقُولِ بِالْعَقْلِ، لِأَنَّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ: ظَاهِرٌ جَلِيٌّ لَا يَرْتَابُ بِهِ أَحَدٌ، وَلَا يَشُكُّ فِيهِ. وَمِنْهُ غَامِضٌ خَفِيٌّ، فَوَصَلْنَا إلَى عِلْمِ الْخَفِيِّ مِنْهُ بِالْجَلِيِّ، وَيَحْتَاجُ فِي إثْبَاتِ الْخَفِيِّ مِنْ أَحْكَامِ الْعُقُولِ إلَى نَظَرٍ وَتَأَمُّلٍ، وَعَرَضَهُ عَلَى الْجَلِيِّ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ.
فَمَا صَحَّحَهُ صَحَّ، وَمَا نَفَاهُ انْتَفَى، كَمَا نَقُولُ فِي الْمَحْسُوبَاتِ: إنَّا أَثْبَتْنَا عُلُومَهَا بِالْحِسِّ، وَإِنْ احْتَجْنَا فِي الْوُصُولِ إلَى اسْتِعْمَالِ آلَةِ الْحِسِّ.
أَلَا تَرَى: أَنَّ مَنْ بَيْنِ يَدَيْهِ طَعَامٌ، لَا يَدْرِي حُلْوٌ هُوَ أَمْ حَامِضٌ: أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِوُجُودِ آلَةِ الْحِسِّ فِيهِ دُونَ ذَوْقِهِ، حَتَّى يَعْرِفَ طَعْمَهُ. كَذَلِكَ الْعُلُومُ الْعَقْلِيَّةُ: مِنْهَا مَا هُوَ جَلِيٌّ، يُعْتَبَرُ بِهِ الْخَفِيُّ مِنْهُ، وَيُتَوَصَّلُ إلَى مَعْرِفَتِهِ بِاسْتِعْمَالِهِ.
وَيُقَالُ لَهُ فِي النَّظَرِ وَمُوجِبِ الْقَوْلِ بِالتَّقْلِيدِ: خَبَرُنَا عَنْ قَوْلِك بِوُجُوبِ التَّقْلِيدِ، هُوَ مَذْهَبٌ قَدْ عَلِمْت صِحَّتَهُ، أَوْ لَمْ تَعْلَمْهَا.
فَإِنْ قَالَ: لَا أَعْلَمُ صِحَّتَهُ، فَقَدْ قَضَى عَلَى اعْتِقَادِهِ بِالْفَسَادِ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَجُوزُ لَهُ

الصفحة 373