كتاب الفصول في الأصول (اسم الجزء: 3)

لِأَنَّهُ حَكَمَ بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ (فِي نَفْيِهِ) لِمَا نَفَاهُ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى خَصْمِهِ أَيْضًا فِي نَفْيِ صِحَّةِ قَوْلِهِ، وَهَذَا غَايَةُ التَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ.
وَيُقَالُ لِقَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ: إذَا نَفَيْت حُكْمًا خُولِفْت فِي نَفْيِهِ، وَزَعَمْت أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْك فَهَلْ عَلِمْت صِحَّةَ مَا نَفَيْته؟ فَإِنْ قَالَ: قَدْ عَلِمْت (أَنَّ) مَا نَفَيْته فَهُوَ مُنْتَفٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ.
قِيلَ لَهُ: بِمَ عَلِمْته وَخَصْمُك بِإِزَائِك يُخَالِفُك فِيهِ، وَمَنْ ادَّعَى عِلْمَ شَيْءٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ بُرْهَانٍ.
فَإِنْ قَالَ: لَا أَعْلَمُهُ حَقًّا.
قِيلَ لَهُ: فَلِمَ اعْتَقَدْته مَنْفِيًّا بِغَيْرِ دَلَالَةٍ، وَأَنْتَ لَا تَدْرِي أَحَقٌّ هُوَ أَمْ بَاطِلٌ، وَقَدْ نَهَاك اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) فَإِنْ جَازَ لَك أَنْ تَعْتَقِدَ صِحَّةَ مَا لَا تَعْلَمُهُ حَقًّا وَصَوَابًا إذَا كُنْت نَافِيًا، وَلَا تُلْزِمُ نَفْسَك إقَامَةَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تُثْبِتَ مَا لَا تَعْلَمُهُ ثَابِتًا بِغَيْرِ دَلِيلٍ؟ وَلَوْ كَانَ مَا قَالَتْهُ هَذِهِ الطَّائِفَةُ حَقًّا، كَانَ لَا دَلِيلَ عَلَى مَنْ نَفَى حَدَثَ الْعَالَمِ، وَنَفَى إثْبَاتَ الصَّانِعِ، وَلَجَازَ لَهُ الْقَوْلُ فِي نَفْيِ ذَلِكَ، وَتَرْكُ النَّظَرِ فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ أَوْ نَفْيِهِ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ مَنْ نَفَى مَا طَرِيقُهُ الْعَقْلُ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ دَلَالَةٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا طَرِيقُهُ السَّمْعُ. فَإِنَّهُ يَحْتَجُّ فِيهِ: بِأَنَّ فِي الْعَقْلِ دَلَالَةً عَلَى إثْبَاتِ الْمُثْبِتِ، وَنَفْيِ الْمُنْتَفِي بِمَا طَرِيقُ إثْبَاتِهِ أَوْ نَفْيِهِ الْعَقْلُ. فَلِمَ يَخْتَلِفُ فِيهِ حُكْمُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ.
وَأَمَّا السَّمْعِيَّاتُ فَطَرِيقُهَا السَّمْعُ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِي إثْبَاتِهِ، فَمَنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ مِنْهَا

الصفحة 386