كتاب الفصول في الأصول (اسم الجزء: 3)

وَالنَّاقِلُونَ لِقَتْلِ الْمَسِيحِ إنَّمَا نَقَلُوا عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَتْلَ الرَّجُلِ الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهُ الْمَسِيحُ، وَهَؤُلَاءِ، إمَّا أَنْ يَكُونُوا قَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ الْمَسِيحُ فَأَخْطَئُوا فِي ظَنِّهِمْ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا تَوَاطَئُوا عَلَى الِاجْتِهَادِ عَنْهُ بِالْكَذِبِ.
فَإِنْ قِيلَ: الَّذِينَ شَاهَدُوهُ بَعْدَ الْقَتْلِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَصْلُوبًا قَدْ قَالُوا: إنَّ الْمَصْلُوبَ كَانَ الْمَسِيحَ، وَلَمْ يَشُكُّوا فِي ذَلِكَ، وَلَا سَائِرُ مَنْ نَقَلُوا إلَيْهِ الْخَبَرَ بِهِ، إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] حِينَئِذٍ كَذَّبَ الْخَوَاطِرَ فِي أَمْرِهِ، وَشَكَّ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، وَاعْتَقَدَ الْمُسْلِمُونَ بُطْلَانَ خَبَرِهِمْ.
قِيلَ لَهُ: أَمَّا الْحَوَارِيُّونَ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَسِيحِ مُسْتَخْفِينَ غَيْرَ ظَاهِرِينَ مِنْ الْيَهُودِ، حَتَّى طَلَبُوا الْمَسِيحَ لِيَقْتُلُوهُ، وَإِنَّمَا سَمِعُوا مِمَّنْ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا مَصْلُوبًا، قِيلَ: إنَّهُ الْمَسِيحُ، وَأَمَّا الْيَهُودُ فَمَا كَانُوا يَعْرِفُونَهُ بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا رَجَعُوا فِيهِ إلَى قَوْلِ يَهُوذَا الَّذِي دَلَّهُمْ عَلَيْهِ بِزَعْمِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَشُكُّونَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] فَإِنَّ أَوَّلَ النَّاقِلِينَ لِذَلِكَ لَمْ يَكُونُوا مُخْطِئِينَ فِي ظَنِّهِمْ، أَنَّهُ قُتِلَ وَصُلِبَ، أَوْ مُتَوَاطِئِينَ عَلَى نَقْلِهِ، لَمَّا جَازَ وُقُوعُ الشَّكِّ مِنْ أَحَدٍ سَمِعَ أَخْبَارَ هَذِهِ الْجَمَاعَاتِ فِي قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَشْكِيكُ أَحَدٍ فِي أَنَّ الْمَسِيحَ قَدْ كَانَ فِي الدُّنْيَا.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ هَذَا فِيمَا ذَكَرْت لَجَازَ عَلَى قَوْمٍ مُخْتَلِفِي الْهِمَمِ لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ، أَنْ يُخْبِرُوا عَنْ رَجُلٍ مَشْهُورٍ مَعْرُوفٍ، أَنَّهُمْ رَأَوْهُ مَصْلُوبًا مَقْتُولًا، فَلَا يَقَعُ لَنَا الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ رُؤْيَتِهِمْ إيَّاهُ مَقْتُولًا مَصْلُوبًا، وَبَيْنَ رُؤْيَتِهِمْ إيَّاهُ حَيًّا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ الْمَسِيحَ قَدْ كَانَ فِي الدُّنْيَا، هُمْ الَّذِينَ نَقَلُوا إلَيْنَا أَنَّهُ قُتِلَ وَصُلِبَ، وَمَنْ عَرَفَهُ حَيًّا فِيمَا بَيْنَهُمْ، هُوَ الَّذِي ذَكَرَ: أَنَّهُ عَرَفَهُ مَقْتُولًا، مَصْلُوبًا.
قِيلَ لَهُ: لَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا ظَنَنْت، لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ، وَلِأَنَّ نَقْلَهُمْ لِقَتْلِهِ وَصَلْبِهِ لَوْ كَانَ فِي وَزْنِ نَقْلِهِمْ لِكَوْنِهِ فِي الدُّنْيَا، لَوَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِقَتْلِهِ، وَصَلْبِهِ، كَوُقُوعِهِ بِكَوْنِهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَيْسَ لِنَقْلِ كَوْنِهِ فِي الدُّنْيَا سَبَبٌ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَبَرِ بِهِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلشُّبْهَةِ فِيهِ، وَالْقَتْلُ وَالصَّلْبُ قَدْ اعْتَرَضَهُمَا أَسْبَابٌ تَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْخَبَرِ بِهِمَا مِنْ قَوْمٍ يُوجِبُ خَبَرُهُمْ

الصفحة 43