كتاب الفصول في الأصول (اسم الجزء: 3)

وَأَمَّا الرِّسَالَةُ: فَقَدْ كَانَ الْخَبَرُ تَوَاتَرَ عَنْهُمْ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - النَّاسَ إلَى تَصْدِيقِهِ، وَظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ الْمُوجِبَةِ لِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ عَلَى يَدِهِ، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِمْ النَّظَرُ فِي أَمْرِهِ وَمَا يَدْعُو إلَيْهِ، وَفِي مُعْجِزَاتِهِ وَدَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ قَبْلَ بَعْثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرُّسُلَ، لِلْأَحْكَامِ الَّتِي تَتَضَمَّنُهَا كُتُبُهُ وَرَسَائِلُهُ إلَيْهِمْ.
وَبَعْدَ تَقَدُّمِهِ الدُّعَاءَ إلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّصْدِيقِ بِالرِّسَالَةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ: أَنَّهُمْ إنْ أَجَابُو فَلَهُمْ كَذَا، وَإِنْ لَمْ يُجِيبُوا فَعَلَيْهِمْ كَذَا، فَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ أَمْرًا لَهُمْ بِحَمْلِ الشَّرَائِعِ.
وَضَرْبٌ آخَرُ: وَهُوَ تَوْجِيهُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عُمَّالَهُ إلَى الْآفَاقِ، كَتَوْجِيهِهِ لِمُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ إلَى الْيَمَنِ، وَاسْتِعْمَالِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُمَّالِ الصَّدَقَاتِ.
وَقَدْ كَانَ يَتَقَدَّمُ إلَيْهِمْ بِجُمَلِ الْفُرُوضِ وَالْأَحْكَامِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِتَعْلِيمِهَا لِلنَّاسِ، وَحَمْلِهِمْ عَلَيْهَا، وَإِلْزَامِ الْمَبْعُوثِ إلَيْهِمْ قَبُولَهَا، فَدَلَّ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْخَبَرَ كَانَ يَتَوَاتَرُ عِنْدَهُمْ بِاسْتِعْمَالِ الْعَامِلِ عَلَيْهِمْ، كَمَا يَتَوَاتَرُ الْخَبَرُ الْآنَ بِتَوْلِيَةِ الْخَلِيفَةِ أَمِيرًا مِنْ الْأُمَرَاءِ بَعْضَ الْبُلْدَانِ.
قِيلَ لَهُ: أَجَلْ قَدْ كَانَ يَتَوَاتَرُ الْخَبَرُ عِنْدَهُمْ بِالْوِلَايَةِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَتَوَاتَرُ عِنْدَهُمْ الْخَبَرُ بِالْأَحْكَامِ الَّتِي يَقْدُمُ بِهَا إلَيْهِمْ، فَأَمَرَهُمْ بِأَدَائِهَا إلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ كَانَ كُلَّمَا بَعَثَ عَامِلًا بَيَّنَ لِسَائِرِ النَّاسِ كُلَّ حُكْمٍ أَمَرَهُ بِإِنْفَاذِهِ، وَكُلَّ شَرِيعَةٍ أَمَرَهُ بِأَدَائِهَا إلَيْهِمْ، لَنَقَلَ النَّاسُ ذَلِكَ إلَيْنَا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، فَمَا كَانَ الْمَنْقُولُ إلَيْنَا مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ: تَوْجِيهُ الْعُمَّالِ دُونَ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَقَدَّمَ إلَيْهِمْ بِهَا، وَقَدْ عَلِمْنَا مَعَ ذَلِكَ: أَنَّهُ كَانَ يَتَقَدَّمُ إلَيْهِمْ بِأَشْيَاءَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِأَدَائِهَا إلَى الْمَبْعُوثِينَ إلَيْهِمْ، ثَبَتَ أَنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَكُنْ يَتَوَاتَرُ عِنْدَهُمْ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ نَقْلَهَا إلَيْهِمْ كَانَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا أَلْزَمَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِمْ، قَبُولَ خَبَرِ الْمَوْلَى فِي الْأَحْكَامِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -

الصفحة 83