كتاب الفصول في الأصول (اسم الجزء: 3)

الْوَاحِدِ إنَّمَا يُوجِبُ عِنْدَنَا الْعِلْمَ الظَّاهِرَ دُونَ الْحَقِيقَةِ، لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا السَّائِلُ مَا يَنْفِي قَبُولَهُ، إذَا كَانَ مَا أَوْجَبَهُ ضَرْبًا مِنْ الْعِلْمِ يَجُوزُ أَنْ يَقْتَضِيَهُ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَاتِ، لِيَكُونَ الْحُكْمُ بِهِ حُكْمًا لِمُوجِبِهَا وَمُقْتَضَاهَا، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُوجِبَةً لِمَا ادَّعَاهُ السَّائِلُ - لَمَنَعَتْ قَبُولَ قَوْلِ الرَّسُولِ فِي الْهَدِيَّةِ، وَلَسَقَطَتْ أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ كُلِّهَا، لِأَنَّهَا لَا تُوجِبُ عِلْمَ الْحَقِيقَةِ.
وَمَعْلُومٌ: أَنَّ أَكْثَرَ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ تَشْتَمِلُ عَلَى إبَاحَةِ مَا كَانَ مَحْظُورًا قَبْلَ الْخَبَرِ، وَحَظْرِ مَا كَانَ مُبَاحًا.
فَلَمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى قَبُولِ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ فِي إبَاحَةِ مَا كَانَ مَحْظُورًا، وَحَظْرِ مَا كَانَ مُبَاحًا، مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ الْحَقِيقِيِّ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهَا، بَطَلَ بِذَلِكَ اسْتِدْلَالُ مَنْ اسْتَدَلَّ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى نَفْيِ قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي أُمُورِ الدِّيَانَاتِ، مِنْ حَيْثُ لَمْ يُوجِبْ عِلْمًا لِمُخْبِرِهَا.
وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَدَلَّ مُسْتَدِلٌّ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ، لَمْ يَتَعَدَّدْ ذَلِكَ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171] وَنَحْوُ ذَلِكَ قَدْ اقْتَضَى الْحُكْمَ بِمَا يَجُوزُ فِي إطْلَاقِ اللَّفْظِ، فَإِنَّهُ حُكْمٌ بِعِلْمٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَقِّ، وَكَانَ مَا يُخْبِرُ بِهِ الْعَدْلُ مُوجِبًا لِضَرْبٍ مِنْ الْعِلْمِ، أَوْجَبَ ذَلِكَ دُخُولَهُ فِي ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَلَزِمَ الْحُكْمُ بِهِ بِعُمُومِهَا.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَخْبَارُ الْآحَادِ الْوَارِدَةُ فِي أُمُورِ الدِّيَانَاتِ مُخَالِفَةٌ لِلشَّهَادَاتِ، وَالْإِقْرَارَاتِ، وَأَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّا إنَّمَا كُلِّفْنَا الشَّهَادَةَ فِي الْإِقْرَارِ مِنْ عِلْمِ الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ بِهِمَا، وَلَمْ نُكَلَّفْ عِلْمَ مَا كَانَ بِهِ الْإِقْرَارُ، وَلَا عِلْمَ مَا قَامَتْ بِهِ الشَّهَادَةُ.
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] إنَّمَا كُلِّفْنَا فِيهِنَّ عِلْمَ ظُهُورِ ذَلِكَ مِنْهُنَّ، لَا عِلْمَ الْمُضَمَّنِ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الدِّينِ، لِأَنَّا كُلِّفْنَا فِيهِ عِلْمَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] {وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171] وقَوْله تَعَالَى: {وإنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28]

الصفحة 91