كتاب أحكام القرآن للجصاص ت قمحاوي (اسم الجزء: 3)

ذِكْرُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي الصَّلَاةِ فِي حَالِ الْقِتَالِ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ لَا يُصَلِّي فِي حَالِ الْقِتَالِ فَإِنْ قَاتَلَ فِي الصَّلَاةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ يُصَلِّي إيمَاءً إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الرُّكُوعِ مِنْ الْقِتَالِ كَبَّرَ بَدَلَ كُلِّ رَكْعَةٍ تَكْبِيرَةً وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَضْرِبَ فِي الصَّلَاةِ الضَّرْبَةَ وَيَطْعَنَ الطَّعْنَةَ فَإِنْ تَابَعَ الطَّعْنَ وَالضَّرْبَ أَوْ عَمِلَ عَمَلًا يَطُولُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقِتَالَ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صلى صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي مَوَاضِعَ عَلَى مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ وَلَمْ يُصَلِّ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ حَتَّى كَانَ هُوِيٌّ «1» مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ قَالَ مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى ثُمَّ قَضَاهُنَّ عَلَى التَّرْتِيبِ فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقِتَالَ شَغَلَهُ عَنْ الصَّلَاةِ وَلَوْ كَانَتْ الصَّلَاةُ جَائِزَةً فِي حَالِ الْقِتَالِ لَمَا تَرَكَهَا كَمَا لَمْ يَتْرُكْهَا فِي حَالِ الْخَوْفِ فِي غَيْرِ قِتَالٍ وَقَدْ كَانَتْ الصَّلَاةُ مَفْرُوضَةً فِي حَالِ الْخَوْفِ قَبْلَ الْخَنْدَقِ لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِذَاتِ الرِّقَاعِ صَلَاةَ الْخَوْفِ
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيُّ أَنَّ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ كَانَتْ قَبْلَ الْخَنْدَقِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْقِتَالَ يُنَافِي الصَّلَاةَ وَأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ مَعَهُ وَأَيْضًا فَلَمَّا كَانَ الْقِتَالُ فِعْلًا يُنَافِي الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ مَعَهُ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ كَانَ حُكْمُهُ فِي الْخَوْفِ كَهُوَ فِي غَيْرِهِ مِثْلُ الْحَدَثِ وَالْكَلَامِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَسَائِرِ الْأَفْعَالِ الْمُنَافِيَةِ لِلصَّلَاةِ وَإِنَّمَا أُبِيحَ لَهُ الْمَشْيُ فِيهَا لِأَنَّ الْمَشْيَ لَا يُنَافِي الصَّلَاةَ فِي كُلِّ حَالٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ وَلِأَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمَشْيَ لَا يُفْسِدُهَا فَسَلَّمْنَاهُ لِلْإِجْمَاعِ وَمَا عَدَاهُ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُنَافِيَةِ لِلصَّلَاةِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أصله وقوله تَعَالَى فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُونَ بِأَخْذِ السِّلَاحِ الطَّائِفَةُ الَّتِي مَعَ الْإِمَامِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ الَّتِي بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ لِأَنَّ فِي الْآيَةِ ضَمِيرًا لِلطَّائِفَةِ الَّتِي بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ وَضَمِيرُهَا ظَاهِرٌ فِي نَسَقِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ أَنَّهُ أَمَرَ الطَّائِفَةَ الْمُصَلِّيَةَ مَعَ الْإِمَامِ بِأَخْذِ السِّلَاحِ وَلَمْ يَقُلْ فَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ لِأَنَّ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ طَائِفَةً غَيْرَ مُصَلِّيَةٍ حَامِيَةً لَهَا قَدْ كَفَتْ هَذِهِ أَخْذَ الْحَذَرِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى أَنَّ
__________
(1) قوله هوي بفتح الهاء وضمها وكسر الواو وتشديد الياء الحين الطويل من الليل.

الصفحة 245