كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (اسم الجزء: 3)

لَا يَقْصِدُهَا الْحَالِفُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عِنْدَنَا لَيْسَ بِلَغْوٍ وَفِيهَا الْكَفَّارَةُ وَعِنْدَهُ هِيَ لَغْوٌ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَمِينُ اللَّغْوِ هِيَ الْيَمِينُ عَلَى الْمَعَاصِي نَحْوُ أَنْ يَقُولَ وَاَللَّهِ لَا أُصَلِّي صَلَاةَ الظَّهْرِ وَلَا أَصُومُ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ أَوْ لَا أُكَلِّمُ أَبَوَيَّ أَوْ يَقُولَ وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ أَوْ لَأَزْنِيَنَّ أَوْ لَأَقْتُلَنَّ فُلَانًا.
ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ إذَا حَنِثَ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُوجِبُ.
وَجْهُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَنَّ اللَّغْوَ هُوَ الْإِثْمُ فِي اللُّغَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55] أَيْ كَلَامًا فِيهِ إثْمٌ، فَقَالُوا: إنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى - {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] أَيْ لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِالْإِثْمِ فِي أَيْمَانِكُمْ عَلَى الْمَعَاصِي بِنَقْضِهَا وَالْحِنْثِ فِيهَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ قَوْلَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] صِلَةَ قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة: 224] .
وَقِيلَ فِي الْقِصَّةِ إنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَحْلِفُ أَنْ لَا يَصْنَعَ الْمَعْرُوفَ وَلَا يَبَرَّ وَلَا يَصِلَ أَقْرِبَاءَهُ وَلَا يُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ فَإِذَا أُمِرَ بِذَلِكَ يَتَعَلَّلُ وَيَقُولُ إنِّي حَلَفْتُ عَلَى ذَلِكَ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ - {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] الْآيَةَ لِأَنَّهُ لَا مَأْثَمَ عَلَيْهِمْ بِنَقْضِ ذَلِكَ الْيَمِينِ وَتَحْنِيثِ النَّفْسِ فِيهَا وَإِنَّ الْمُؤَاخَذَةَ بِالْإِثْمِ فِيهَا بِحِفْظِهَا وَالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَكَفَّارَتُهُ إلَى قَوْلِهِ {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] أَيْ حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُوجِبْ فِيهَا الْكَفَّارَةَ أَصْلًا لِمَا نَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي بَيَانِ حُكْمِ الْيَمِينِ.
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ يَمِينِ اللَّغْوِ فَقَالَتْ: هِيَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ فِي كَلَامِهِ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ وَعَنْ عَطَاءٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ يَمِينِ اللَّغْوِ فَقَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «هُوَ كَلَامُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ» فَثَبَتَ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا أَنَّ تَفْسِيرَ يَمِينِ اللَّغْوِ مَا قُلْنَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ فَكَانَ لَغْوًا عَلَى كُلِّ حَالٍ إذَا لَمْ يَقْصِدْهُ الْحَالِفُ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَابَلَ يَمِينَ اللَّغْوِ بِالْيَمِينِ الْمَكْسُوبَةِ بِالْقَلْبِ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] وَالْمَكْسُوبَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ فَكَانَ غَيْرُ الْمَقْصُودَةِ دَاخِلًا فِي قَسَمِ اللَّغْوِ تَحْقِيقًا لِلْمُقَابَلَةِ.
(وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى - {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] قَابَلَ يَمِينَ اللَّغْوِ بِالْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمُؤَاخَذَةِ وَنَفْيِهَا فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ يَمِينُ اللَّغْوِ غَيْرَ الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ تَحْقِيقًا لِلْمُقَابَلَةِ، وَالْيَمِينُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَمِينٌ مَعْقُودَةٌ سَوَاءٌ وُجِدَ الْقَصْدُ أَوْ لَا وَلِأَنَّ اللَّغْوَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} [الواقعة: 25] أَيْ بَاطِلًا.
وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - خَبَرًا عَنْ الْكَفَرَةِ {وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا وَهُوَ الْحَلِفُ بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ بَلْ عَلَى ظَنٍّ مِنْ الْحَالِفِ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَالْحَقِيقَةُ بِخِلَافِهِ وَكَذَا مَا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَكِنْ فِي الْمَاضِي أَوْ الْحَالِ فَهُوَ مِمَّا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فَكَانَ لَغْوًا وَلِأَنَّ اللَّغْوَ لَمَّا كَانَ هُوَ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ كَانَ هُوَ الْبَاطِلَ الَّذِي لَا حُكْمَ لَهُ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا مَعْقُودَةً لِأَنَّ لَهَا حُكْمًا.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ فِيهَا ثَابِتَةٌ وَفِيهَا الْكَفَّارَةُ بِالنَّصِّ؟ فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ اللَّغْوِ مَا قُلْنَا وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي تَفْسِيرِ يَمِينِ اللَّغْوِ هِيَ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ عَلَى الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ صَادِقٌ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ يَمِينَ اللَّغْوِ مَا يَجْرِي فِي كَلَامِ النَّاسِ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ فِي الْمَاضِي لَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا فَسَّرَتْهَا بِالْمَاضِي فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ.
وَرُوِيَ عَنْ مَطَرٍ عَنْ رَجُلٍ قَالَ دَخَلْت أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَسَأَلْتهَا عَنْ يَمِينِ اللَّغْوِ فَقَالَتْ قَوْلُ الرَّجُلِ فَعَلْنَا وَاَللَّهِ كَذَا وَصَنَعْنَا وَاَللَّهِ كَذَا فَتُحْمَلُ تِلْكَ الرِّوَايَةُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ إذْ الْمُجْمَلُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُفَسَّرِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - قَابَلَ اللَّغْوَ بِالْيَمِينِ الْمَكْسُوبَةِ فَنَقُولُ: فِي تِلْكَ الْآيَةِ قَابَلَهَا بِالْمَكْسُوبَةِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قَابَلَهَا بِالْمَعْقُودَةِ، وَمَتَى أَمْكَنَ حَمْلُ الْآيَتَيْنِ عَلَى التَّوَافُقِ كَانَ أَوْلَى مِنْ الْحَمْلِ عَلَى التَّعَارُضِ فَنَجْمَعُ بَيْنَ حُكْمِ الْآيَتَيْنِ فَنَقُولُ: يَمِينُ اللَّغْوِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَكْسُوبَةٍ وَغَيْرُ مَعْقُودَةٍ، وَالْمُخَالِفُ عَطَّلَ إحْدَى الْآيَتَيْنِ فَكُنَّا أَسْعَدَ حَالًا مِنْهُ.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى - {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا} [البقرة: 224] الْآيَةُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ ذَلِكَ نَهْيٌ عَنْ الْحَلِفِ عَلَى الْمَاضِي مَعْنَاهُ {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا} [البقرة: 224] أَيْ لَا تَحْلِفُوا أَنْ

الصفحة 4