كتاب فتح السلام شرح عمدة الأحكام من فتح الباري (اسم الجزء: 3)

الجواب الثاني: الجمع في قوله " أنبيائهم " بإزاء المجموع من اليهود والنّصارى، والمراد الأنبياء وكبار أتباعهم فاكتفى بذكر الأنبياء.
ويؤيّده قوله في رواية مسلم من طريق جندب " كانوا يتّخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد " , ولهذا لَمّا أفرد النّصارى في الحديث الذي قبله قال " إذا مات فيهم الرّجل الصّالح " ولَمَّا أفرد اليهود في الحديث الذي بعده قال " قبور أنبيائهم ".
الجواب الثالث: المراد بالاتّخاذ: أعمّ من أن يكون ابتداعاً أو اتّباعاً، فاليهود ابتدعت والنّصارى اتّبعت، ولا ريب أنّ النّصارى تعظّم قبور كثير من الأنبياء الذين تعظّمهم اليهود.
وقوله: (اتّخذوا) جملة مستأنفة على سبيل البيان لموجب اللعن، كأنّه قيل ما سبب لعنهم؟. فأجيب بقوله " اتّخذوا "
قوله: (لأُبرز قبره) أي لكشف قبر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ولَم يُتّخذ عليه الحائل، والمراد الدّفن خارج بيته.
وهذا قالته عائشة قبل أن يوسّع المسجد النّبويّ، ولهذا لَمّا وسّع المسجد جُعلت حجرتُها مثلثة الشّكل محدّدة حتّى لا يتأتّى لأحدٍ أن يُصلِّي إلى جهة القبر مع استقبال القبلة. (¬1)
¬__________
(¬1) قال شيخ الإسلام في " فتاوى " (27/ 323): كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا مات دفن في حجرة عائشة , وكانت هي وحُجَر نسائه في شرقي المسجد , وقبليه لم يكن شيء من ذلك داخلاً في المسجد , واستمر الأمر على ذلك إلى أن انقرض عصر الصحابة بالمدينة.
ثم بعد ذلك في خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان بنحو من سنة من بيعته وسَّع المسجد , وأدخلت فيه الحجرة للضرورة: فإنَّ الوليد كتب إلى نائبه عمر بن عبد العزيز أن يشتري الحجر من ملاكها ورثة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنهنَّ كنَّ قد توفين كلهنَّ رضي الله عنهنَّ فأمره أن يشتري الحجر ويزيدها في المسجد. فهدمها وأدخلها في المسجد وبقيت حجرة عائشة على حالها , وكانت مغلقة لا يُمكَّن أحدٌ من الدخول إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لا لصلاة عنده ولا لدعاء ولا غير ذلك. إلى حين كانت عائشة في الحياة , وهي توفيت قبل إدخال الحجرة بأكثر من عشرين أو ثلاثين سنة. فإنها توفيت في خلافة معاوية.
ثم ولي ابنه يزيد ثم ابن الزبير في الفتنة ثم عبد الملك بن مروان ثم ابنه الوليد , وكانت ولايته بعد ثمانين من الهجرة. وقد مات عامة الصحابة , قيل إنه لم يبق بالمدينة إلا جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - فإنه آخر من مات بها في سنة 78 قبل إدخال الحجرة بعشر سنين.
ففي حياة عائشة - رضي الله عنها - كان الناس يدخلون عليها لسماع الحديث ولاستفتائها وزيارتها من غير أن يكون إذا دخلَ أحدٌ يذهب إلى القبر المكرَّم لا لصلاة ولا لدعاء ولا غير ذلك - بل ربما طلب بعض الناس منها أن تريه القبور فتريه إياهنَّ , وهي قبور لا لاطئة ولا مشرفةٌ مبطوحة ببطحاء العرصة. انتهى

الصفحة 480