كتاب المنتقى شرح الموطإ (اسم الجزء: 3)

(ص) : (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ مَا فَرَى الْأَوْدَاجَ فَكُلُوهُ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــQ (ش) : قَوْلُهُ مَا فَرَى الْأَوْدَاجَ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا صِفَةُ الْآلَةِ الَّتِي يُذْبَحُ بِهَا فَيَقُولُ: إنَّ مَا كَانَ مِنْ الْآلَاتِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَجَبَ أَنْ تُسْتَبَاحَ بِهِ الذَّكَاةُ وَهَذَا ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى الثَّانِي أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا بَلَغَ مِنْ ذَكَاتِهِ إلَى فَرْيِ الْأَوْدَاجِ فَإِنَّهُ قَدْ كَمُلَتْ ذَكَاتُهُ وَحَصَلَتْ إبَاحَتُهُ وَلَعَلَّهُ قَدْ تَرَكَ ذِكْرَ الْحُلْقُومِ لَمَّا كَانَ الْمَعْلُومُ فِي الْأَغْلَبِ لَا تُفْرَى الْأَوْدَاجُ إلَّا بَعْدَ فَرْيِ الْحُلْقُومِ وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ: إنَّ الذَّكَاةَ تَفْرِي الْحُلْقُومَ وَالْوَدَجَيْنِ فَإِنْ قَطَعَ الْوَدَجَيْنِ دُونَ الْحُلْقُومِ أَوْ الْحُلْقُومَ دُونَ الْوَدَجَيْنِ لَمْ تَتِمَّ الذَّكَاةُ هَذَا حَقِيقَةُ الْمَذْهَبِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي الذَّكَاةِ تَقْطَعُ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ وَهُوَ الْبُلْعُومُ وَالِاعْتِبَارُ بِالْوَدَجَيْنِ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ مَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فَكُلْ» وَإِنْهَارُ الدَّمِ إجْرَاؤُهُ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ لِأَنَّهَا مَجْرَى الدَّمِ وَأَمَّا الْمَرِيءُ فَلَيْسَ بِمَجْرَى الدَّمِ وَإِنَّمَا هُوَ مَجْرَى الطَّعَامِ وَلَيْسَ فِيهِ مِنْ الدَّمِ إلَّا الْيَسِيرُ الَّذِي لَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِنْهَارُ وَدَلِيلُنَا أَيْضًا مَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ بِاعْتِبَارِ الْوَدَجَيْنِ وَلَا مُخَالِفَ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْهُمْ قَالَ بِاعْتِبَارِ الْمَرِيءِ وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الذَّكَاةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى فَرْيِ مَا كَانَ فَرْيُهُ أَسْرَعَ مَوْتًا لِأَنَّهُ أَخَفُّ عَلَى الْحَيَوَانِ وَالْوَدَجَانِ أَسْرَعُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَرِيءِ لِأَنَّ الْمَرِيءَ مَدْخَلُ الطَّعَامِ وَيُفْضِي إلَى الْفَمِ بِقَطْعِهِ إحْدَاثُ مَدْخَلٍ آخَرَ لَهُ بِقُرْبِ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ بِمَقْتَلٍ فِي نَفْسِهِ وَأَمَّا الْوَدَجَانِ فَإِنَّ نِهَايَتَهُمَا مُتَّصِلَةٌ بِالْجِسْمِ وَهُمَا مَجْرَى الدَّمِ لَا يَتَّصِلُ بَعْدَ انْقِطَاعِهِمَا فَقَطْعُهُمَا مَقْتَلٌ وَلِذَلِكَ يُقَالُ فِي الذَّبِيحَةِ تَشْخَبُ أَوْدَاجُهَا دَمًا وَلَا ذِكْرَ لِلْمَرِيءِ فِي ذَلِكَ فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى اتِّبَاعًا وَنَظَرًا.
(فَرْعٌ) وَأَمَّا الْحُلْقُومُ فَمَجْرَى النَّفَسِ وَهُوَ مِنْ الْمَذْبَحِ فَإِنْ قَطَعَ جَمِيعَهُ مَعَ الْوَدَجَيْنِ تَمَّتْ الذَّكَاةُ فِيهِ وَإِنْ قَطَعَ بَعْضَهُ فَقَدْ رَوَى يَحْيَى بْنُ يَحْيَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الدَّجَاجَةِ وَالْعُصْفُورِ وَالْحَمَامِ إذَا أُجْهِزَ عَلَى أَوْدَاجِهِ وَحَلْقِهِ أَوْ ثُلُثَيْهِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَقَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَزَادَ: وَإِنْ لَمْ يُقْطَعْ مِنْهُ إلَّا الْيَسِيرُ فَلَا يَجُوزُ وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ حَتَّى يُجْهَزَ عَلَى جَمِيعِ الْحُلْقُومِ وَالْأَوْدَاجِ وَجْهُ قَوْلِ سَحْنُونٍ أَنَّ هَذَا مَعْنًى تَتَعَلَّقُ بِهِ الذَّكَاةُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ الِاسْتِيعَابَ كَالْوَدَجَيْنِ وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الذَّكَاةَ مَحَلُّهَا الْوَدَجَانِ وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْحُلْقُومِ عَلَى مَعْنَى التَّبَعِ فَإِذَا قُطِعَ أَكْثَرُهُ مَعَ اسْتِيعَابِ الْوَدَجَيْنِ فَقَدْ كَمُلَتْ الذَّكَاةُ.
(فَرْعٌ) وَلَوْ قُطِعَ الْحُلْقُومُ وَأَحَدُ الْوَدَجَيْنِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: لَا تُؤْكَلُ وَظَاهِرُ لَفْظِ الْمُدَوَّنَةِ يَقْتَضِي أَنَّهَا لَا تُؤْكَلُ لِأَنَّهُ قَالَ: لَا تُؤْكَلُ حَتَّى يَقْطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْوَدَجَيْنِ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: إنْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْوَدَجَيْنِ لَمْ تُؤْكَلْ وَوَجْهُ ذَلِكَ تَعَلُّقُ الذَّكَاةِ بِهِمَا فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ اسْتِيعَابِهِمَا.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ فَكُلُوهُ تَبْيِينٌ أَنَّ قَوْلَهُ مَا فَرَى الْأَوْدَاجَ إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْفِعْلَ دُونَ الْآلَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: كُلُّ ذَبْحٍ أَوْ ذَكَاةٍ تَبْلُغُ فَرْيَ الْأَوْدَاجِ فَإِنَّهُ قَدْ أَبَاحَ أَكْلَ مَا ذُكِّيَ بِهِ وَفِي الْكَلَامِ تَجَوُّزٌ لِرُجُوعِ ضَمِيرِ الْمَأْكُولِ عَلَى الْفِعْلِ وَالْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
1 -
(فَرْعٌ) وَمَنْ نَخَعَ الذَّبِيحَةَ وَمَعْنَاهُ أَنْ يَقْطَعَ نُخَاعَهَا عِنْدَ ذَبْحِهَا فَقَدْ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: إنْ فَعَلَ أَيْ أَكْمَلَ ذَبْحَهَا يُرِيدُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ مَنْ ذَبَحَهَا فَقَدْ أَسَاءَ وَهِيَ تُؤْكَلُ وَإِنْ كَانَ نَخَعَهَا فِي ذَبْحِهِ يُرِيدُ لِمَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَدٍ سَبَقَتْ فَهِيَ تُؤْكَلُ قَالَهُ مَالِكٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ جَهْلٍ فَقَدْ قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَا تُؤْكَلُ وَقَالَ أَصْبَغُ وَابْنُ الْقَاسِمِ: تُؤْكَلُ فِي الْعَامِدِ وَالْجَاهِلِ وَلَا أَقُولُ بِقَوْلِهِمَا، وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ أَنَّهُ تَرَكَ سُنَّةَ الذَّبْحِ فَهُوَ كَالْعَابِثِ بِذَبِيحَتِهِ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ مَا زَادَ مِنْ النَّخْعِ إنَّمَا وُجِدَ بَعْدَ تَمَامِ الذَّكَاةِ الْمُبِيحَةِ كَمَا لَوْ تَعَمَّدَ سَلْخَهَا وَقَطْعَ أَعْضَائِهَا بَعْدَ أَنْ أَكْمَلَ ذَكَاتَهَا وَقَبْلَ أَنْ يُزْهِقَ نَفْسَهَا.

الصفحة 113