كتاب المنتقى شرح الموطإ (اسم الجزء: 3)

(ص) : (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: مَا مِنْ شَيْءٍ إلَّا يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ يُعْفَى عَنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ حَدًّا) .

(ص) : (قَالَ مَالِكٌ: السُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ مَنْ شَرِبَ شَرَابًا مُسْكِرًا فَسَكِرَ أَوْ لَمْ يَسْكَرْ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــQصَحِيحًا عُجِّلَ جَلْدُهُ وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا أُخِّرَ حَتَّى يُفِيقَ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ تَدَّعِي أَنَّهَا حَامِلٌ قَالَ مَالِكٌ: لَا يُعَجَّلُ عَلَيْهَا حَتَّى يُتَبَيَّنَ أَمْرُهَا فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنْ لَيْسَ لَهَا حَمْلٌ أُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدُّ وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ بِهَا حَمْلًا أُخِّرَتْ حَتَّى تَضَعَ وَاسْتُؤْجِرَ لِوَلَدِهَا مَنْ يُرْضِعُهُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَأُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدُّ فِي زِنًا أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ قَذْفٍ أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ أَوْ قِصَاصٍ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ مَعَانٍ يُرْجَى قُرْبُ زَوَالِهَا وَبُرْؤُهَا مِنْهَا، وَأَمَّا الْكِبَرُ وَالْهَرَمُ أَوْ الضَّعْفُ عَنْ حَمْلِ الْحَدِّ قَالَ مَالِكٌ: يُجْلَدُ وَلَا يُؤَخَّرُ إذْ لَيْسَ لِإِفَاقَتِهِمْ وَقْتٌ يُؤَخَّرُونَ إلَيْهِ.

(ش) : قَوْلُهُ مَا مِنْ شَيْءٍ إلَّا يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ يُعْفَى عَنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ حَدًّا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الْحُدُودَ إذَا بَلَغَتْ الْإِمَامَ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ شَرْطِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ الْعَفْوُ عَنْهُ وَلَا السَّتْرُ لَهُ وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ مِنْ الْحُدُودِ مَا لَا يَجُوزُ لِصَاحِبِهَا الْعَفْوُ عَنْهَا بَعْدَ بُلُوغِهَا الْإِمَامَ كَحَدِّ الْقَذْفِ فَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ حَدِّ الْقَذْفِ مُبَيَّنًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ: إنَّ مَنْ شَرِبَ مُسْكِرًا أَيَّ نَوْعٍ كَانَ مِنْ الْأَنْوَاعِ الْمُسْكِرَةِ مِنْ عِنَبٍ كَانَتْ أَوْ مِنْ غَيْرِ عِنَبٍ مَطْبُوخًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَطْبُوخٍ قَلِيلًا شَرِبَ مِنْهُ أَوْ كَثِيرًا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ سَكِرَ أَوْ لَمْ يَسْكَرْ هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَا خَرَجَ مِنْ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ فَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ حَرَامٌ مَا لَمْ يُطْبَخْ وَطَبْخُهُ أَنْ يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ وَيَبْقَى ثُلُثُهُ وَمَا عَدَا مَا يَخْرُجُ مِنْ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ فَهُوَ حَلَالٌ مِنْ غَيْرِ طَبْخٍ إلَّا أَنَّ الْمُسْكِرَ مِنْهُ مُحَرَّمٌ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ كَادَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ يَجْحَدُونَهَا وَلَا يَرَوْنَ الْمُنَاظَرَةَ فِيهَا وَيَقُولُونَ: إنَّ السَّائِلَ عَنْهَا إنَّمَا يَذْهَبُ إلَى التَّشْنِيعِ وَالتَّوْبِيخِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لِطُولِ الْأَمَدِ وَوُصُولِ الْأَدِلَّةِ إلَيْهِمْ وَتَكَرُّرِهَا عَلَيْهِمْ تَبَيَّنَ لَهُمْ مَا فِيهَا إلَّا أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُدَوِّنُونَهَا فِي كُتُبِهِمْ بِأَلْفَاظٍ لَيْسَ فِيهَا ذَلِكَ التَّصْرِيحُ وَيَتَأَوَّلُونَهَا عَلَى أَوْجُهٍ تُخَفِّفُ أَمْرَهَا عِنْدَهُمْ وَلَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَانِ:
أَحَدُهُمَا: إثْبَاتُ اسْمِ الْخَمْرِ لِكُلِّ مُسْكِرٍ وَالثَّانِي إثْبَاتُ تَحْرِيمِ كُلِّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ إنَّ اسْمَ الْخَمْرِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ مِنْ عِنَبٍ كَانَ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّمَا الْخَمْرُ اسْمُ الْمُسْكِرِ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ مَا لَمْ يُطْبَخْ الطَّبْخَ الْمَذْكُورَ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ الْعِنَبِ وَالثَّمَرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَسَلِ وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ.
فَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: إنَّ الْخَمْرَ يَكُونُ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسَةِ الْأَشْيَاءِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ فَلَوْ انْفَرَدَ بِهَذَا الْقَوْلِ لَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ فَكَيْفَ وَقَدْ خَطَبَ بِذَلِكَ بِحَضْرَةِ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ إجْمَاعٌ وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ فَإِنَّهُ يُسَمَّى الْخَمْرَ وَأَنَّهَا بِذَلِكَ تُسَمَّى خَمْرًا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ مُحَرَّمٌ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ} [المائدة: 90] إلَى قَوْلِهِ {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] قُلْنَا مِنْ الْآيَةِ أَدِلَّةٌ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إنَّهُ {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُحَرَّمِ وَالثَّانِي أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] فَأَمَرَ بِاجْتِنَابِ ذَلِكَ وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَوَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ وَعَدَ عَلَى ذَلِكَ بِالْفَلَاحِ وَهُوَ الْبَقَاءُ وَلَوْ كَانَ الْفَلَاحُ وَهُوَ الْبَقَاءُ فِي الْخَمْرِ مِنْ ثَوَابِ مَنْ لَا يَجْتَنِبُهَا لَمَا كَانَ لِهَذَا الْوَعِيدِ وَجْهٌ وَوَجْهٌ رَابِعٌ أَنَّهُ وَصَفَهَا تَعَالَى بِأَنَّهَا تُوقِعُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَتَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُحَرَّمَاتِ وَوَجْهٌ خَامِسٌ أَنَّهُ تَعَالَى تَوَعَّدَ عَلَى مُوَاقِعِيهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] وَهَذَا غَايَةُ الْوَعِيدِ وَلَا يَتَوَعَّدُ إلَّا عَلَى مَحْظُورٍ مُحَرَّمٍ وَدَلِيلُنَا

الصفحة 147