كتاب المنتقى شرح الموطإ (اسم الجزء: 3)

يَتَخَوَّفُ مِنْهُمْ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ مَهْمَا تَنْزِلُ بِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ مِنْ مَنْزِلٍ شِدَّةٌ يَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَهَا فَرَجًا وَأَنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنَ وَأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] .

النَّهْيُ عَنْ أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ (ص) : (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ» وَقَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــQ (ش) : قَوْلُهُ كَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَسْتَشِيرُ فِيمَا يَفْعَلُهُ لِمَا فَجَأَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ جُمُوعِ الرُّومِ وَيُعَلِّمُهُ مَا يَتَّقِي مِنْهُمْ وَيَخَافُ مِنْ ضَعْفِ مُسْلِمِي الثُّغُورِ عَنْهُمْ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ يُرِيدُ أَنَّ عَاقِبَةَ الْمُؤْمِنِينَ إلَى الْفَرَجِ وَقَوْلُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنَ قِيلَ: إنَّ وَجْهَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا عُرِّفَ الْعُسْرُ اقْتَضَى اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ فَكَانَ الْعُسْرُ الْأَوَّلُ هُوَ الثَّانِي مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5] وَلَمَّا كَانَ الْيُسْرُ مُنْكَرًا كَانَ الْأَوَّلُ مِنْهُ غَيْرَ الثَّانِي وَقَدْ أَدْخَلَ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ أَلَمْ نَشْرَحْ لَك بِأَثَرِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 6] كَقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: 52] فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْيُسْرَيْنِ عِنْدَهُ الظَّفَرُ بِالْمُرَادِ وَالْأَجْرُ فَالْعُسْرُ لَا يَغْلِبُ هَذَيْنِ الْيُسْرَيْنِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ لِلْمُؤْمِنِ أَحَدُهُمَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا عِنْدِي وَجْهٌ ظَاهِرٌ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] وَذَكَّرَهُمْ هَذِهِ الْآيَةَ وَنَبَّهَهُمْ عَلَيْهَا لَمَّا تَضَمَّنَتْ جَمِيعَ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ وَمُدَاوَمَتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَصَابِرُوا وَالْأَمْرُ بِالرِّبَاطِ هُوَ الْمَقَامُ بِالثَّغْرِ وَسَدُّهُ وَالذَّبُّ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِهِ.

[النَّهْيُ عَنْ أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ]
(ش) : قَوْلُهُ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الصُّحُفَ لَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ مَكْتُوبًا فِيهَا سَمَّاهُ قُرْآنًا وَلَمْ يُرِدْ مَا كَانَ مِنْهُ مَحْفُوظًا فِي الصَّدْرِ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِحَافِظِ الْقُرْآنِ الْغَزْوُ وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا إهَانَةَ لِلْقُرْآنِ فِي قَتْلِ الْغَازِي وَإِنَّمَا الْإِهَانَةُ لِلْقُرْآنِ بِالْعَبَثِ بِالْمُصْحَفِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ مُفَسَّرًا نَهْيُ أَنْ يُسَافَرَ بِالْمُصْحَفِ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْمُصْحَفِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ» .
1 -
(فَصْلٌ) :
وَالسَّفَرُ اسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى الْغَزْوِ وَغَيْرِهِ قَالَ ابْنُ سَحْنُونٍ: قُلْت لِسَحْنُونٍ أَجَازَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ الْغَزْوَ بِالْمُصْحَفِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ فِي الْجَيْشِ الْكَبِيرِ كَالطَّائِفَةِ وَنَحْوِهَا وَأَمَّا السَّرِيَّةُ وَنَحْوُهَا فَلَا قَالَ سَحْنُونٌ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ عَامًّا وَلَمْ يُفَصِّلْ وَقَدْ يَنَالُهُ الْعَدُوُّ مِنْ نَاحِيَةِ الْغَفْلَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ سَحْنُونٌ أَنَّهُ لَا قُوَّةَ فِيهِ عَلَى الْعَدُوِّ وَلَيْسَ مِمَّا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى حَرْبِهِ وَقَدْ يَنَالُهُ لِشُغْلٍ عَنْهُ كَمَا قَالَ سَحْنُونٌ وَقَدْ يَنَالُهُ بِالْغَلَبَةِ أَيْضًا.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْكُفَّارِ رَغِبَ أَنْ يُرْسَلَ إلَيْهِ بِمُصْحَفٍ يَتَدَبَّرُهُ لَمْ يُرْسَلْ إلَيْهِ بِهِ لِأَنَّهُ نَجِسٌ جُنُبٌ وَلَا يَجُوزُ لَهُ مَسُّ الْمُصْحَفِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ أَحَدٌ مِنْ ذَرَارِيِّهِمْ الْقُرْآنَ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِتَمَكُّنِهِمْ مِنْهُ وَلَا بَأْسَ أَنْ يُقْرَأَ عَلَيْهِمْ احْتِجَاجًا عَلَيْهِمْ بِهِ وَلَا بَأْسَ أَنْ يُكْتَبَ إلَيْهِمْ بِالْآيَةِ وَنَحْوِهَا عَلَى سَبِيلِ الْوَعْظِ كَمَا كَتَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى مَلِكِ الرُّومِ {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] .

الصفحة 165