كتاب المنتقى شرح الموطإ (اسم الجزء: 3)

(ص) : (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعَثَ جُيُوشًا إلَى الشَّامِ فَخَرَجَ يَمْشِي مَعَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَكَانَ أَمِيرَ رَبْعٍ مِنْ تِلْكَ الْأَرْبَاعِ فَزَعَمُوا أَنَّ يَزِيدَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: إمَّا أَنْ تَرْكَبَ وَإِمَّا أَنْ أَنْزِلَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَنْتَ بِنَازِلٍ وَمَا أَنَا بِرَاكِبٍ إنِّي أَحْتَسِبُ خُطَايَ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: إنَّك سَتَجِدُ قَوْمًا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ فَدَعْهُمْ وَمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ وَسَتَجِدُ قَوْمًا فَحَصُوا عَنْ أَوْسَاطِ رُءُوسِهِمْ مِنْ الشَّعْرِ فَاضْرِبْ مَا فَحَصُوا عَنْهُ بِالسَّيْفِ وَإِنِّي مُوصِيك بِعَشْرٍ: لَا تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً وَلَا صَبِيًّا وَلَا كَبِيرًا هَرِمًا، وَلَا تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا وَلَا تُخْرِبَنَّ عَامِرًا وَلَا تَعْقِرَنَّ شَاةً وَلَا بَعِيرًا إلَّا لِمَأْكَلَةٍ وَلَا تَحْرِقَنَّ نَخْلًا وَلَا تُغْرِقَنَّهُ وَلَا تَغْلُلْ وَلَا تَجْبُنْ)
ـــــــــــــــــــــــــــــQيَسْقُطُ ذَلِكَ عَنْهُنَّ بِالْأَسْرِ كَمَا لَوْ قَتَلْنَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُنَّ مِمَّنْ يُقَرُّ عَلَى غَيْرِ جِزْيَةٍ فَلَمْ يَجُزْ قَتْلُهُنَّ بِالْأَسْرِ كَمَا لَمْ يُقَاتَلْنَ.

(ش) : قَوْلُهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعَثَ جُيُوشًا إلَى الشَّامِ فَخَرَجَ يَمْشِي مَعَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَهُ عَلَى سَبِيلِ الْبِرِّ لَهُ وَالتَّشْيِيعِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سُنَّةً فِي تَشْيِيعِ الْخَارِجِ إلَى الْغَزْوِ وَالْحَجِّ وَسُبُلِ الْبَرِّ وَأَضَافَ مَشْيَهُ إلَى يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ إمَّا لِأَنَّهُ اخْتَصَّ بِمُمَاشَاتِهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ وَالْمُكَالَمَةِ لَهُ وَإِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ خُرُوجُهُ بِسَبَبِهِ فَقَالَ خَرَجَ مَعَ يَزِيدَ يُشَيِّعُهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ قَصَدَ بِخُرُوجِهِ تَشْيِيعَهُ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجَا مَعًا.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ فَزَعَمُوا أَنَّ يَزِيدَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: إمَّا أَنْ تَرْكَبَ وَإِمَّا أَنْ أَنْزِلَ عَلَى مَعْنَى الْإِكْرَامِ لِأَبِي بَكْرٍ وَالتَّوَاضُعِ لَهُ لِدِينِهِ وَفَضْلِهِ وَخِلَافَتِهِ لِئَلَّا تَكُونَ حَالُهُ فِي الرُّكُوبِ أَرْفَعَ مِنْ حَالِهِ فِي الْمَشْيِ وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا أَنْتَ بِنَازِلٍ وَمَا أَنَا بِرَاكِبٍ إنِّي احْتَسَبْت خُطَايَ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُرِيدُ أَنَّ قَصْدَهُ بِالْمَشْيِ فِي تَشْيِيعِهِمْ وَوَصِيَّتِهِمْ حِسْبَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَعَلَّهُ أَرَادَ الرِّفْقَ بِهِ وَالتَّقْوِيَةَ لَهُ لِمَا يَلْقَاهُ مِنْ نَصَبِ الْعَدُوِّ وَتَعَبِ السَّفَرِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ وَمُقَاوَمَتِهِ وَأَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَلْقَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَحْتَجْ مِنْ التَّقْوَى وَالتَّرَفُّهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ يَزِيدُ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّك سَتَجِدُ أَقْوَامًا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ فَدَعْهُمْ وَمَا زَعَمُوا إنَّهُمْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ يُرِيدُ الرُّهْبَانَ الَّذِينَ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ وَأَقْبَلُوا عَلَى مَا يَدَّعُونَ مِنْ الْعِبَادَةِ وَكَفُّوا عَنْ مُعَاوَنَةِ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ بِرَأْيٍ أَوْ مَالٍ أَوْ حَرْبٍ أَوْ إخْبَارٍ بِخَبَرٍ فَهَؤُلَاءِ لَا يُقْتَلُونَ سَوَاءٌ كَانُوا فِي صَوَامِعَ أَوْ دِيَارَاتٍ أَوْ غِيرَانٍ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ اعْتَزَلُوا الْفَرِيقَيْنِ وَعَفُّوا عَنْ مُعَاوَنَةِ أَحَدِهِمَا.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا رُهْبَانُ الْكَنَائِسِ فَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يُقْتَلُونَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَزِلُوا أَهْلَ مِلَّتِهِمْ وَهُمْ مُدَاخِلُونَ لَهُمْ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُعْرَفَ سَلَامَتُهُمْ مِنْ مَعُونَتِهِمْ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَا يُسْبَى الرُّهْبَانُ وَلَا يُخْرَجُونَ مِنْ صَوَامِعِهِمْ بَلْ يُتْرَكُونَ عَلَى حَالِهِمْ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ يُسْبَوْنَ وَيُسْتَرَقُّونَ لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَدَعْهُمْ وَمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ وَهَذَا يَقْتَضِي إبْقَاءَهُمْ عَلَى حَالِهِمْ فَإِنْ كَانَ لِلرُّهْبَانِ أَمْوَالٌ فَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الرَّاهِبِ لَهُ الْغَنِيمَةُ وَالزَّرْعُ فِي أَرْضِ الرُّومِ أَنَّهُ لَا يُعْرَضُ لَهُ وَذَلِكَ يَسِيرٌ وَلَا يُعْرَضُ لِبَقَرِهِ وَلَا لِغَنَمِهِ إذَا عُرِفَ أَنَّهَا لَهُ وَلِذَلِكَ وَجْهٌ يُعْرَفُ وَمَا أَدْرِي كَيْفَ يُعْرَفُ هَذَا وَقَالَ سَحْنُونٌ: إنَّ مَعْنَى ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ إذَا كَانَ قَلِيلًا قَدْرَ عَيْشِهِ وَأَمَّا مَا جَاوَزَ ذَلِكَ فَلَا يُتْرَكُ لَهُ وَجْهُ قَوْلِ سَحْنُونٍ إنَّ فِي اسْتِئْصَالِ مَالِهِ قَتْلَهُ أَوْ إنْزَالَهُ عَنْ مَوْضِعِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يُتْرَكَ لَهُ مَا يَكْفِيهِ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ لَهُ إلَيْهِ فَلَا يُتْرَكُ لَهُ.

(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَسَتَجِدُ أَقْوَامًا فَحَصُوا عَنْ أَوْسَاطِ رُءُوسِهِمْ يُرِيدُ حَلَقُوا أَوْسَاطَ رُءُوسِهِمْ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يَعْنِي الشَّمَامِسَةَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَضْرِبَ مَا فَحَصُوا عَنْهُ بِالسَّيْفِ يُرِيدُ بِذَلِكَ قَتْلَهُمْ وَلَمْ يُرِدْ ضَرْبَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ خَاصَّةً وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12]

الصفحة 167