كتاب المنتقى شرح الموطإ (اسم الجزء: 3)

الْعَمَلُ فِي غُسْلِ الشُّهَدَاءِ (ص) : (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَكَانَ شَهِيدًا يَرْحَمُهُ اللَّهُ مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: الشُّهَدَاءُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يُغَسَّلُونَ وَلَا يُصَلَّى عَلَى جَنَائِزِهِمْ وَأَنَّهُمْ يُدْفَنُونَ فِي الثِّيَابِ الَّتِي قُتِلُوا فِيهَا قَالَ مَالِكٌ وَتِلْكَ السُّنَّةُ فِيمَنْ قُتِلَ فِي الْمُعْتَرَكِ فَلَمْ يُدْرَكْ حَتَّى مَاتَ قَالَ: وَأَمَّا مَنْ حُمِلَ مِنْهُمْ فَعَاشَ مَا شَاءَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ كَمَا عُمِلَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــQاللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا مَنْ شَاءَ وَيَضَعُهَا مِنْ النَّاسِ فِيمَنْ شَاءَ لَا تَخْتَصُّ بِشَرِيفٍ وَلَا وَضِيَعٍ وَلَا مُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ وَلَا بَرٍّ وَلَا فَاجِرٍ فَقَدْ تُوجَدُ فِي كُلِّ صِنْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَالْجَبَانُ يَفِرُّ عَنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَالْجَرِيءُ يُقَاتِلُ عَمَّنْ لَا يَئُوبُ إلَى رَحْلِهِ عَلَى مَعْنَى التَّفْسِيرِ لِمَعْنَى الْجَرِيءِ وَالْجَبَانِ وَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ بِالطَّبْعِ الَّذِي طُبِعَ عَلَيْهِ لَا بِاكْتِسَابٍ وَلَا بِتَعَلُّمٍ وَلِذَلِكَ يَفِرُّ الْجَبَانُ عَنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ مَعَ مَحَبَّتِهِ لَهُمَا وَحِرْصِهِ عَلَى حَيَّاتِهِمَا، وَيُقَاتِلُ الْجَرِيءُ عَلَى مَنْ لَا يَئُوبُ إلَى رَحْلِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَمْرُهُ وَلَا يَكَادُ يُشْفِقُ عَلَيْهِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْقَتْلُ حَتْفٌ مِنْ الْحُتُوفِ يُرِيدُ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْمَوْتِ كَالْمَوْتِ مِنْ الْمَرَضِ وَالْمَوْتِ بِالْغَرَقِ وَالْمَوْتِ بِالْهَدْمِ فَهُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَوْتِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَرْتَاعَ مِنْهُ فَإِنَّ الْمَوْتَ لَا بُدَّ مِنْهُ وَهُوَ كُلُّهُ فَظِيعٌ فَهَذَا نَوْعٌ مِنْهُ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَهَابَ هَيْبَةً تُورِثُ الْجُبْنَ، ثُمَّ قَالَ: وَالشَّهِيدُ مَنْ احْتَسَبَ نَفْسَهُ يُرِيدُ مَنْ رَضِيَ بِالْقَتْلِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ رَجَاءَ ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى.

[الْعَمَلُ فِي غُسْلِ الشُّهَدَاءِ]
(ش) : قَوْلُهُ (غُسِّلَ وَكُفِّنَ) يُرِيدُ غُسْلَ الْمَيِّتِ الْمَشْرُوعِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ وَالْمُنْتَقَى أَنَّ الشَّهَادَةَ فَضِيلَةٌ تُسْقِطُ فَرْضَ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَاسْتِئْنَافِ كَفَنِهِ وَتُسْقِطُ فَرْضَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُغَسَّلُ وَلَكِنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ: أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ فَإِذَا أُشِير لَهُ إلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ: أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ» وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا مَعْنًى يُسْقِطُ فَرْضَ غُسْلِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُسْقِطَ فَرْضَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ أَصْلُ ذَلِكَ الْخَوْفُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَهَذَا لِمَنْ خَرَجَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي ذَلِكَ وَأَمَّا مَنْ غَزَاهُ الْعَدُوُّ فِي قَعْرِ دَارِهِ فَدَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ فَقُتِلَ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَأَشْهَبُ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَهَذَا إذَا دَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَدْفَعْ وَقَتَلَهُ الْعَدُوُّ مِنْ غَيْرِ مُدَافَعَةٍ مِثْلُ أَنْ يَغْلِبُوا عَلَيْهِ فِي مَنْزِلِهِ أَوْ يُقْتَلَ نَائِمًا أَوْ يُقْتَلَ بَعْدَ الْأَسْرِ فَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَقَالَ سَحْنُونٌ وَأَصْبَغُ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَهَذِهِ كَانَتْ حَالَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ فِي حَالِ غَفْلَةٍ لَا فِي قِتَالٍ وَلَا فِي مُدَافَعَةٍ وَقَدْ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ إجْمَاعٌ.
(فَرْعٌ) وَهَذَا إذَا مَاتَ الْمَقْتُولُ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي مَوْضِعِ الْقَتْلِ فَأَمَّا مَنْ رُفِعَ مِنْ الْمُعْتَرَكِ ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ فَالْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَبْقَ فِيهِ إلَّا مَا يَكُونُ مِنْهُ فِي غَمْرَةِ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ مَاتَ فِي الْمُعْتَرَكِ وَمَنْ أَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ وَشَرِبَ فَهُوَ كَسَائِرِ الْمَوْتَى يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَقَالَ سَحْنُونٌ إنَّ كُلَّ مَنْ بِهِ جُرْحٌ لَا يُقْتَلُ قَاتِلُهُ إلَّا بِقَسَامَةٍ فَيُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بِهِ جُرْحٌ يُقْتَلُ قَاتِلُهُ مِنْ غَيْرِ قَسَامَةٍ فَإِنَّهُ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ

الصفحة 210