كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 3)
من جهة الغرب على يمين المتوجه إلى ناحية مكة المشرّفة من ناحية مصر فناداه فيه العزيز الجبار وهو ذو طوى {إذ} أي: حين {قضينا} أي: أوحينا {إلى موسى الأمر} أي: أمر الرسالة إلى فرعون وقومه وما يريد أن يفعل من ذلك في أوّله وأثنائه وآخره مجملاً فكان كل ما أخبرنا به مطابقاً تفصيله لإجماله {وما كنت} أي: بوجه من الوجوه {من الشاهدين} لتفاصيل ذلك الأمر الذي أجملناه لموسى عليه السلام حتى تخبر به كله على هذا الوجه الذي آتيناك به في هذه الأساليب المعجزة، ولا شك أنّ معرفتك لذلك من قبيل الأخبار عن المغيَّبات التي لا تعرف إلا بالوحي ولذلك استدرك عنه بقوله تعالى:
{ولكنا} أي: بما لنا من العظمة {أنشأنا} بعدما أهلكنا أهل ذلك الزمان الذين علموا هذه الأمور بالمشاهدة وهم السبعون المختارون للميقات أو بالإخبار كلهم {قروناً} أي: أمما كثيرة بعد موسى عليه السلام {فتطاول} أي: بمروره وعلوه {عليهم العمر} أي: ولكنا أوحينا إليك أنا أنشأنا قروناً مختلفة بعد موسى عليه السلام فتطاولت عليهم المدد فنسوا العهود واندرست العلوم وانقطع الوحي فحذف المستدرك وهو أوحينا وأقام سببه وهو الإنشاء مقامه على عادة الله تعالى في اختصاراته فهذا الاستدراك شبيه بالاستداركين بعده، فإن قيل: ما الفائدة في إعادة قوله تعالى: {وما كنت من الشاهدين} بعد قوله: {وما كنت بجانب الغربي} لأنه ثبت بذلك أنه لم يكن شاهداً لأنّ الشاهد لا بدّ أن يكون حاضراً؟ أجيب: بأنّ ابن عباس قال: التقدير لم تحضر ذلك الموضع ولو حضرت ما شاهدت تلك الوقائع فإنه يجوز أن يكون هناك ولا يشهد ولا يرى.
وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم، وحمزة والكسائي بضمّ الهاء والميم، وحمزة في الوقف بضمّ الهاء وسكون الميم، والباقون في الوصل بكسر الهاء وضمّ الميم، ولما نفى العلم عن ذلك بطريق الشهود نفي سبب العلم بذلك بقوله تعالى: {وما كنت ثاوياً} أي: مقيماً إقامة طويلة مع الملازمة بمدين {في أهل مدين} أي: قوم شعيب عليه السلام كمقام موسى وشعيب فيهم {تتلوا} أي: تقرأ {عليهم} تعلماً منهم {آياتنا} العظيمة التي منها قصتهما لتكون ممن يهتم بأمور الوحي ويتعرّف دقيق أخباره فيكون خبرهم وخبر موسى عليه السلام معك {ولكنا كنا مرسلين} إياك رسولاً وأنزلنا عليك كتاباً فيه هذه الأخبار تتلوها عليهم ولولا ذلك ما علمتها ولم تخبرهم بها.
{وما كنت بجانب الطور} أي: بناحية الجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام {إذ} أي: حين {نادينا} أي: أوقعنا النداء لموسى عليه السلام فأعطيناه التوراة وأخبرناه بما لا يمكن الاطلاع عليه إلا من قبلنا أو من قبله، ومن المشهور أنك لم تطلع على شيء من ذلك من قبله لأنك ما خالطت أحداً ممن حمل تلك الأخبار عن موسى عليه السلام ولا أحداً حملها ممن حملها عنه ولكن كان ذلك إليك منا، وهو معنى قوله تعالى {ولكن} أي: أنزلنا ما أردنا وأرسلناك به {رحمة من ربك} لك خصوصاً وللخلق عموماً.
وقيل: إذ نادينا موسى خذ الكتاب بقوّة، وقال وهب: قال موسى يا رب أرني محمداً قال إنك لن تصل إلى ذلك وإن شئت ناديت أمّته وأسمعتك صوتهم قال: بلى يا رب فقال الله تعالى: يا أمّة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم، وقال أبو زرعة: نادى يا أمّة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني،
الصفحة 103
604