كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 3)
وفي هذا من الشهادة القوية على استحاكم كفرهم ورسوخه فيهم ما لا يخفي وهو كقوله تعالى: {ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه} (الأنعام: 28)
ولما كان التقدير ولكنا أرسلناك بالحق لقطع حجتهم هذه بنى عليه.
{فلما جاءهم} أي: أهل مكة {الحق} أي: الذي هو أعم من الكتاب والسنة وما يقاس عليهما وهو في نفسه جدير بأن يقبل لكونه في الذروة العليا من الثبات فكيف وهو {من عندنا} على مالنا من العظمة وهو على لسانك وأنت أعظم الخلق {قالوا} أي: أهل الدعوة من العرب وغيرهم تعنتا وكفراً به {لولا} أي: هلا ولم لا {أوتي} أي: هذا الآتي بما يزعم أنه الحق من الآيات {مثل ما أوتي موسى} من الآيات كاليد البيضاء والعصا وغيرهما من كون الكتاب أنزل عليه جملة واحدة قال الله تعالى: {أو لم يكفروا} أي: العرب ومن بلغته الدعوة من بني إسرائيل ومن كان مثلهم في البشرية والعقل في زمن موسى {بما أوتي موسى} عليه السلام من قبل أي: من قبل مجئ الحق على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ولما كان كأنه قد قيل ما كان كفرهم به قيل {قالوا} أي: فرعون وقومه ومن كفر من بني إسرائيل {ساحران} أي: موسى وأخوه عليهما السلام {تظاهرا} أي: أعان كل منهما صاحبه على سحره حتى صار سحرهما معجزاً فغلبا جميع السحرة وتظاهر الساحرين من تظاهر السحرين على قراءة الكوفيين بكسر السين وسكون الحاء، وقرأ الباقون بفتح السين وكسر الحاء وألف بينهما.
تنبيه: يجوز أن يكون الضمير لمحمد وموسى عليهما الصلاة والسلام، قال البقاعي: وهو أقرب وذلك لأنه روي أن قريشاً جاءت إلى اليهود فسألوهم عن محمد صلى الله عليه وسلم فأخبروهم أنّ نعته في كتابهم فقالوا هذه المقالة فيكون الكلام استئنافاً لجواب من كأنه قال: ما كان كفرهم بهما؟ فقيل قالوا أي: العرب: الرجلان ساحران أو الكتابان ساحران ظاهر أحدهما الآخر مع علم كل ذي لب أنّ هذا القول زيف لأنه لو كان شرط إعجاز السحر التظاهر لكان سحر فرعون أعجز إعجازاً لأنه تظاهر عليه جميع سحرة بلاد مصر وعجزوا عن معارضة ما أظهر موسى عليه السلام من آياته كالعصا، وأمّا محمد صلى الله عليه وسلم فقد دعا أهل الأرض من الجنّ والأنس إلى معارضة كتابه وأخبرهم أنهم عاجزون ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً فعجزوا عن آخرهم، ولما تضمن قولهم ذلك الكفر صرّحوا به {وقالوا} أي: كفار قريش {إنا بكل} أي: من الساحرين أو السحرين اللذين تظاهرا بهما وهما ما أتيا به من عند الله {كافرون} جراءة على الله تعالى وتكبراً على الحق ثم قال الله تعالى:
{قل} أي: لهم إلزاماً إن كنتم صادقين في أني ساحر وكتابي سحر وكذلك موسى عليه السلام {فأتوا بكتاب من عند الله} أي: الملك العلي الأعلى {هو} أي: الذي تأتون به {أهدى منهما} أي: من الكتابين وقوله {أتبعه} أي: وأتركهما جواب الأمر وهو فأتوا {إن كنتم} أي: أيها الكفار {صادقين} أي: في أنا ساحران فأتوا بما ألزمتكم به، قال البيضاوي: وهذا من الشروط التي يراد بها الإلزام والتبكيت ولعل مجيء حرف الشك للتهكم بهم.
{فإن لم يستجيبوا لك} أي: دعاءك إلى الكتاب الأهدى فحذف المفعول
الصفحة 105
604