كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 3)

تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك قال فما تريد يا ابن أخي قال أريد منك كلمة واحدة فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله قال يا ابن أخي قد علمت أنك صادق ولكني أكره أن يقال جزع عند الموت ولولا أن يكون عليك وعلى بني أبيك غضاضة وسبة بعدي لقلتها ولأقررت بها عينك عند الفراق لما أرى من شدّة وجدك ونصيحتك ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وعبد مناف فإن قيل قال الله تعالى في هذه الآية {أنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} وقال تعالى في آية أخرى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} (الشورى: 52)
أجيب: بأنه لا تنافي بينهما فإن الذي أثبته وأضافه إليه الدعوة والذي نفى عنه هداية التوفيق وشرح الصدور وهو نور يقذف في القلب فيحيا به القلب كما قال تعالى: {أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس} (الأنعام: 122)
{وهو أعلم} أي: عالم {بالمهتدين} أي: الذين قد هيأهم لتطلب الهدى عند خلقه لهم سواء كانوا من أهل الكتاب أم من العرب أقارب كانوا أم أباعد، ثم حكى الله تعالى عن كفار قريش شبهة تتعلق بأحوال الدنيا بقوله تعالى:
{وقالوا إن نتبع الهدى} أي: الإسلام فنوحد الله تعالى من غير إشراك {معك} وأنت على ما أنت عليه من مخالفة الناس {نتخطف} أي: من أيّ خاطف أرادنا لأنا نصير قليلاً في كثير من غير نصير {من أرضنا} كما تتخطف العصافير لمخالفة كافة العرب لنا وليس لنا نسبة إلى كثرتهم ولا قوّتهم فيسرعوا إلينا فيتخطفونا، أي: يتقصدون خطفنا واحداً واحداً فإنه لا طاقة لنا على إدامة الاجتماع وأن لا يشذ بعضنا عن بعض.
قال المبرد: والخطف الانتزاع بسرعة نزلت في الحارث بن نوفل بن عبد مناف قال للنبي صلى الله عليه وسلم إنا لنعلم أن الذي تقوله حق ولكنا إن اتبعناك على دينك وخالفنا العرب بذلك وإنما نحن أكلة رأس خفنا أن تخرجنا العرب من أرضنا مكة، ثم ردّ الله تعالى عليهم هذه الشبهة وألقمهم الحجر بقوله تعالى: {أو لم نمكن} أي: غاية التمكين {لهم} أي: في أوطانهم ومحلّ سكناهم بما لنا من القدرة {حرماً آمنا} أي: ذا أمن يأمن فيه كل خائف حتى الطير من كواسرها والوحش من جوارحها حتى إن سيل الحلّ لا يدخل الحرم بل إذا وصل إليه عدل عنه، وروي أنّ مكة كانت في الجاهلية لا يعرضها ظلم ولا بغي ولا يبغي فيها أحد إلا أخرجته وكان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه فيها فلا يهيجه ولا يتعرّض له بسوء، وروى الأزرقي في تاريخ مكة عن حويطب بن عبد العزى قال: كان في الكعبة حلق يدخل الخائف يده فيها فلا يريبه أحد فجاء خائف ليدخل يده فاجتذبه رجل فشلت يده فلقد رأيته في الإسلام وإنه لأشلّ.

وعن ابن عباس قال: أخذ رجل ذود ابن عمّ له فأصابه في الحرم فقال: ذودي فقال اللص: كذبت قال فاحلف فحلف عند المقام فقام ربّ الذود بين الركن والمقام باسطاً يديه يدعو فما برح مقامه يدعو حتى ذهب عقل اللص وجعل يصيح بمكة مالي ولفلان رب الذود فبلغ ذلك عبد المطلب فجمع الذود ودفعه إلى المظلوم فخرج به وبقي الآخر حتى وقع من جبل فتردّى فأكلته السباع.
وعن ابن جريج: أنّ غير قريش من العرب

الصفحة 108