كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 3)
ومعه ناس كثير، وولي هارون عليه السلام الحبورة وهي رياسة الذبح والقربان وكانت بنو إسرائيل يأتون بهداياهم إلى هارون عليه السلام فيضعها في المذبح وتنزل نار من السماء فتأكلها، واعتزل قارون بأتباعه وكان كثير المال والتبع من بني إسرائيل فكان لا يأتي موسى عليه السلام ولا يجالسه، وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «أن قارون كان من السبعين المختارة الذين سمعوا كلام الله تعالى» ولما ذكر الله تعالى بغيه ذكر سببه الحقيقي بقوله تعالى: {وأتيناه من الكنوز} أي: الأموال المدفونة المذخورة فضلاً عن الظاهرة التي هي بصدد الإنفاق منها لما عساه يعرض من المهمات {ما} أي: الذي أوتي شيء كثير لا يدخل تحت حصر حتى {إنّ مفاتحه} أي: مفاتح الأغلاق التي هو مدفون فيها وراء أبوابها {لتنوء} أي: تميل بجهد ومشقة بثقلها {بالعصبة} أي: الجماعة الكثيرة التي تعصب أي: يقوي بعضهم بعضاً {أولى} أي: أصحاب {القوّة} أي: تميلهم من أثقالها إياهم، تنبيه: في المبالغة بالتعبير بالكنوز والمفاتيح والنوء والعصبة الموصوفة ما يدل على أنه أوتي من ذلك ما لم يؤته أحد ممن هو في عداده وكل ذلك مما تستبعده العقول فلذلك وقع التأكيد.
واختلفوا في عدد العصبة: فقال مجاهد ما بين العشرة إلى خمسة عشر، وقال الضحاك عن ابن عباس ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقال قتادة ما بين العشرة إلى الأربعين، وقيل أربعون رجلاً، وقيل سبعون وروي عن ابن عباس قال: كان يحمل مفاتيحه أربعون رجلاً، أقوى ما يكون من الرجال.
وقال جرير عن منصور عن خيثمة قال: وجدت في الإنجيل أن مفاتح خزائن قارون وقر ستين بغلاً ما يزيد فيها مفتاح على أصبع لكل مفتاح كنز، ويقال كان قارون أينما ذهب يحمل معه مفاتيح كنوزه وكانت من حديد فلما أثقلت عليه جعلت من خشب فثقلت فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع وكانت تحمل معه إذا ركب على أربعين بغلاً، وفي الباء في بالعصبة: وجهان أنها للتعدية كالهمزة ولا قلب في الكلام والمعنى لتنئ المفاتح العصبة الأقوياء كما تقول أجأته وجئت به وأذهبته وذهبت به، والثاني: قال أبو عبيدة: إن في الكلام قلباً والأصل لتنوء العصبة بالمفاتح أي: لتنهض بها كقولهم عرضت الناقة على الحوض.
ولما ذكر الله تعالى بغيه ذكر وقته بقوله تعالى: {إذا قال له قومه} أي: من بني إسرائيل {لا تفرح} أي: بكثرة المال فرح بطر فإن الفرح بالعرض الزائل يدل على الركون إليه وذلك يدل على نسيان الآخرة وعلى غاية الجهل وقلة التأمل بالعواقب، قال ابن عباس: كان فرحه ذلك شركاً لأنه ما كان يخاف معه عقوبة الله عز وجل {إنّ الله} أي: الذي له صفات الكمال {لا يحب} أي: لا يعامل معاملة المحب {الفرحين} أي: البطرين الأشرين الراسخين في الفرح بما يفني الذين لا يشكرون الله تعالى بما أعطاهم فإن فرحهم يدل على سقوط الهمم كما قال تعالى: {ولا تفرحوا بما آتاكم} (الحديد، 23) وقال القائل في ذلك.
*ولست بمفراح إذا الدهر سرني
وقال آخر:
*أشدّ الغم عندي في سرور*
تيقن عنه صاحبه انتقالاً فلا يفرح بالدنيا إلا من رضى بها واطمأن، فأما من قلبه إلى الآخرة ويعلم أنه مفارق ما فيه عن قريب لم تحدّثه نفسه بالفرح.
{وابتغ} أي: اطلب طلباً تحمد نفسك فيه {فيما آتاك الله} أي:
الصفحة 117
604