كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 3)
في ثواب الله {فإن أجل الله} أي: الوقت المضروب للقائه {لآت} أي: لجاءٍ لا محالة فإنه لا يجوز عليه إخلاف الوعد، فإن قيل: كيف وقع فإن أجل الله لآت جواباً للشرط؟ أجيب: بأنه إذا كان وقت اللقاء آتياً كان اللقاء آتياً لا محالة كما تقول من كان يرجو لقاء الملك فإن يوم الجمعة قريب، إذا علم أنه يقعد للناس يوم الجمعة، وقال مقاتل يعني: يوم القيامة لكائن ومعنى الآية أن من يخشى الله تعالى ويأمله فليستعد له وليعمل لذلك اليوم كما قال تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً} (الكهف: 110)
{وهو السميع} أي: لما قالوه {العليم} يعلم من صدق فيما قال ومن كذب فيثيب ويعاقب على حسب علمه، قال الرازي: وههنا لطيفة وهي أنّ للعبد أموراً هي أصناف حسناته عمل قلبه وهو التصديق وهو لا يرى ولا يسمع وإنما يعلم، وعمل لسانه وهو يسمع، وعمل أعضائه وجوارحه وهو يرى فإذا أتى بهذه الأشياء يجعل الله تعالى لمسموعه ما لا أذن سمعت، ولمرئيه ما لا عين رأت ولعمل قلبه ما لا خطر على قلب بشر كما وصف في الخبر في وصف الجنة اه.
(تنبيه) لم يذكر الله تعالى من الصفات غير هذين الصفتين كالعزيز والحكيم وذلك لأنه سبق القول في قوله {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمناً} وسبق الفعل بقوله تعالى: {وهم لا يفتنون} وبقوله تعالى: {فليعلمن الله الذين صدقوا} وبقوله تعالى: {أم حسب الذين يعملون السيئات} ولا شك أن القول يدرك بالسمع، والعمل منه ما يدرك بالبصر ومنه ما لا يدرك به كما علم مما مرّ والعلم يشملها، ولما بين تعالى أنّ التكليف حسن واقع وإن عليه وعداً وإيعاد ليس لهما دافع بين أن طلب الله تعالى ذلك من المكلف ليس لنفع يعود إليه بقوله تعالى:
{ومن جاهد} أي: بذل جهده في جهاد حرب أو نفس حتى كأنه يسابق آخر في الأعمال الصالحة {فإنما يجاهد لنفسه} لأنّ منفعة جهاده له لا لله تعالى فإنه غني مطلق كما قال تعالى: {إن الله} أي: المتصرّف في عباده بما شاء {لغنيّ عن العالمين} أي: الأنس والجنّ والملائكة وعن عبادتهم ومثل هذا كثير في القرآن كقوله تعالى: {من عمل صالحاً فلنفسه} (فصلت: 6)
وقوله تعالى: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} (الإسراء: 7)
فينبغي للعبد أن يكثر من العمل الصالح ويخلصه لأنّ من عمل فعلاً يطلب به ملكاً ويعلم أنّ الملك يراه يحسن العمل ويتقنه، وإذا علم أن عمله لنفسه لا لأحد يكثر منه، نسأل الله الكريم الفتاح أن يوفقنا للعمل الصالح وأن يفعل ذلك بأهلينا وذريتنا ومحبينا بمحمد وآله، ولما بين تعالى حال المسيء مجملاً بقوله تعالى: {أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا} إشارة إلى التعذيب مجملاً، وذكر حال المحسن بقوله تعالى: {ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه} وكان التقدير فالذين جاهدوا والذين عملوا السيئات لنجزينهم أجمعين ولكنه طواه لأن السياق لأهل الرجاء عطف عليه قوله تعالى:
{والذين آمنوا وعملوا} تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} أي: في الشدة والرخاء على حسب طاقتهم وفي ذلك إشارة إلى أن رحمته تعالى أتم من غضبه وفضله أتم من عدله وأشار بقوله تعالى: {لنكفرنّ عنهم سيئاتهم} إلى أن الإنسان وإن اجتهد لا بد من أن يزل عن الطاعة لأنه مجبول على النقص: «فالصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما لم تؤت الكبائر، والجمعة، إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان» ونحو ذلك مما وردت به الأخبار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم المختار، فالصغائر تكفر بعمل الصالحات، وأما الكبائر فتكفر بالتوبة، ولما بشرهم
الصفحة 125
604