كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 3)
أقل منهم بكثير بحيث يقال إن طليعة آل فرعون كانت على عدد بني إسرائيل وذلك محقق لتقليل فرعون لهم، وكأنه عبر عنهم بأصحاب دون بني إسرائيل؛ لأنه كان قد آمن كثير من غيرهم {إنا لمدركون} أي: يدركنا فرعون وقومه وقد صرنا بين سدّين العدّو وراءنا والبحر أمامنا ولا طاقة لنا بذلك.
{قال} أي: موسى عليه السلام وثوقاً بوعد الله تعالى {كلا} أي: لا يدركونكم أصلاً، ثم علل ذلك تسكيناً لهم بقوله {إن معي ربي} أي: بنصره فكأنهم قالوا وما عساه يفعل وقد وصلونا قال {سيهدين} أي: يدلني على طريق النجاة، روي: أن مؤمن آل فرعون كان بين يدي موسى عليه السلام فقال أين تذهب فهذا البحر أمامك وقد غشيك آل فرعون قال: أمرت بالبحر ولعلي أؤمر بما أصنع.
{فأوحينا} أي: فتسبب عن كلامه الدال على المراقبة أنا أوحينا ونوّه باسم الكليم جزاء له على ثقته به سبحانه وتعالى، فقال تعالى: {إلى موسى} وفسر الوحي الذي فيه معنى القول بقوله تعالى: {أن اضرب بعصاك البحر} أي: الذي أمامكم وهو بحر القلزم الذي يتوصل أهل مصر منه إلى الطور وإلى مكة المشرّفة وما والاها، وقيل: النيل، فضربه {فانفلق} بسبب ضربه لما ضربه امتثالاً لأمر ربه وصار اثني عشر فرقاً على عدد أسباطهم {فكان كل فرق} أي: جزء وقسم عظيم منه {كالطود} أي: الجبل في إشرافه وطوله وصلابته بعدم السيلان {العظيم} المتطاول في السماء الثابت في قعره لا يتزلزل لأنّ الماء كان منبسطاً في أرض البحر فلما انفلق وانكشف فيه الطريق انضم بعضه إلى بعض فاستطال وارتفع في السماء بين تلك الأجزاء مسالك سلكوها لم يبتل منها سرج الراكب.
قال الزجاج: لما انتهى موسى إلى البحر هاجت الريح والبحر يرمي بموج كالجبال، فقال يوشع: يا كليم الله يا ابن امرأة عمران قد غشينا فرعون والبحر أمامنا، فقال موسى: ههنا فخاض يوشع الماء وجاز البحر ما يواري حافر دابته الماء، وقال الذي يكتم إيمانه يا كليم الله أين أمرت قال ههنا، فكبح فرسه بلجامه حتى طار الزبد من شدقيه، ثم أقحمه البحر فارتسب في الماء، وصنع القوم مثل ذلك فلم يقدروا فجعل موسى لا يدري كيف يصنع، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه، فانفلق فصار فيه اثنا عشر طريقاً لكل سبط طريق فإنّ الرجل على فرسه لم يبتلّ سرجه ولا لبده.
روي: أنّ موسى قال عند ذلك يا من كان قبل كل شيء والمكوّن لكل شيء والكائن بعد كل شيء، وهذا معجز عظيم من وجوه: أحدهما: أن تفرّق ذلك الماء معجز وثانيها: أنّ اجتماع ذلك الماء فوق كل فرق منه حتى صار كالجبل معجز أيضاً، وثالثها: أنه ثبت في الخبر أنه تعالى أرسل على فرعون وقومه من الرياح والظلمة ما حيرهم فاحتبسوا القدر الذي تكامل معه عدد بني إسرائيل وهذا معجز ثالث، ورابعها: أن جعل الله في تلك الجدران المائية كوى ينظر بعضهم إلى بعض وهذا معجز رابع، وخامسها: أن أبقى الله تعالى تلك المسالك حتى قرب آل فرعون فطمعوا أن يتخصلوا من البحر كما تخلص موسى عليه السلام وهذا معجز خامس.
فائدة: لكل من جميع القراء في الراء من فرق الترقيق والتفخيم. ولما كان التقدير: وأدخلنا كل شعب منهم في طريق من تلك الطرق عطف عليه.
{وأزلفنا} أي: قربنا بعظمتنا {ثم} أي: هناك {الآخرين} أي: فرعون وقومه حتى سلكوا مسالكهم وقال أبو عبيدة: وأزلفنا أخلفنا، ومنه ليلة المزدلفة أي: ليلة الجمع، عن عطاء بن السائب: أنّ جبريل عليه السلام كان بين بني إسرائيل وقوم فرعون وكان يسوق بني إسرائيل ويقول ليلحق آخركم بأولكم ويستقبل القبط ويقول رويدكم ليلحق آخركم أولكم.
{وأنجينا موسى ومن معه} وهم من تبعوه من قومه وغيرهم {أجمعين} أي: لم نقدّر على أحد منهم الهلاك بل أخرجناهم من البحر على هيئته المذكورة.
{ثم أغرقنا الآخرين} أي: فرعون
الصفحة 15
604