كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 3)
أي: في النسب لا في الدين {صالح} بصيغة العرض تأدباً معهم وتلطفاً بهم كقول من تقدم قبله {ألا تتقون} الله، ثم علل ذلك بقوله:
{إني لكم رسول} من رب العالمين فلذلك عرضت عليكم هذا لأني مأمور بذلك {أمين} في جميع ما أرسلت به إليكم من خالقكم الذي لا أحد أرحم منه بكم، ثم تسبب عن قوله: {إني لكم رسول} قوله:
{فاتقوا الله} أي: الذي له الغنى المطلق {وأطيعون} فيما أتيت به من عند الله، ثم نفى عنه ما فديتموهم ممن لا عقل له بقوله:
{وما أسألكم عليه} أي: ما جئتكم به، وأغرق في النفي بقوله {من أجر} ثم زاد في تأكيد هذا النفي بقوله: {إن} أي: ما {أجري} على أحد {إلا على رب العالمين} فهو المتفضل المنعم على خلقه، ثم شرع ينكر عليهم أكل خيره وعبادة غيره بقوله:
{أتتركون} أي: من أيدى النوائب التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى {في ما ههنا} أي: في بلادكم هذه من النعم حالة كونكم {آمنين} لا تخافون وأنتم تبارزون الملك القهار بالعظائم.
فائدة: تكتب في ما ههنا في مقطوعة عن ما، ثم فسر ما أجمله بقوله:
{في جنات} أي: بساتين تستر الداخل فيها وتخفيه لكثرة أشجارها {وعيون} تسقيها من مالها من البهجة وغير ذلك من المنافع.
{وزروع} أي: من سائر الأنواع {ونخل طلعها} أي: ما يطلع منها من الثمر {هضيم} قال ابن عباس: هو اللطيف، ومنه قوله: كشح هضيم، وقيل: هو الجواد الكريم من قولهم: يد هضوم إذا كانت تجود بما لديها، وقال أهل المعاني هو المنضم بعضه إلى بعض في وعائه قبل أن يظهر، والطلع: عنقود الثمر قبل خروجه من الكمّ، وقال الزمخشري: الطلع هو الذي يطلع من النخلة كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو والقنوهر اسم للخارج من الجذع كما هو بعرجونه.
فإن قيل: لم قال ونخل بعد قوله: {في جنات} والجنة تتناول النخل أول شيء كما يتناول النعم الإبل كذلك من بين الأزواج حتى إنهم ليذكرون الجنة ولا يقصدون إلا النخيل كما يذكرون النعم ولا يريدون إلا الإبل قال زهير:
*تسقى جنة سحقاً*
وسحقاً: جمع سحوق، ولا يوصف به إلا النخل؟ أجيب: بوجهين: أحدهما: أنه خص النخل بإفراده بعد دخوله في جملة سائر الشجر تنبيهاً على انفراده عنها بفضله عليها، الثاني: أن يريد بالجنات غيرها من الشجر لأنّ اللفظ يصلح لذلك ثم يعطف عليها النخل، ولما ذكر ما أنعم الله تعالى به عليهم أتبعه أفعالهم الخبيثة بقوله:
{وتنحتون} أي: والحال أنكم تنحتون إظهاراً للقدرة {من الجبال} وقرأ {بيوتاً} ورش وأبو عمرو وحفص بضم الباء، والباقون بكسرها، وقرأ {فرهين} ابن عامر والكوفيون بألف بعد الفاء، أي: حاذقين، وقرأ الباقون بغير ألف، أي: بطرين لا لحاجتكم إلى شيء من ذلك.
{فاتقوا} أي: فتسبب عن ذلك. أني أقول لكم اتقوا {الله} الذي له جميع العظمة بأن تجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية باتباع أوامره واجتناب زواجره {وأطيعون} أي: في كل ما أمرتكم به عنه فإني لا آمركم إلا بما يصلحكم.
{ولا تطيعوا أمر المسرفين} أي: المجاوزين للحدود، وقال ابن عباس: المشركين، وقال مقاتل: هم التسعة الذين عقروا الناقة.
تنبيه: استعير الطاعة التي هي انقياد للآمر لامتثال الأمر، أو جعل الأمر مطاعاً على المجاز الحكمي والمراد الآمر، ومنه قولهم: لك على أمرة مطاعة وقوله تعالى: {وأطيعوا أمري} (طه: 90)
الصفحة 27
604