كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 3)

ثم وصف المسرفين بما بين سرفهم بقوله.
{الذين يفسدون في الأرض} بالمعاصي {ولا يصلحون} أي: ولا يطيعون الله في أمرهم به، فإن قيل: فما فائدة ولا يصلحون بعد قوله: يفسدون؟ أجيب: بأنّ في ذلك دلالة على خلوص فسادهم فليس فيه شيء من الصلاح كما يكون حال بعض المفسدين مخلوطاً ببعض الصلاح، ولما عجزوا عن الطعن في شيء مما دعاهم إليه عدلوا إلى التخييل على عقول الضعفاء بأن.

{قالوا إنما أنت من المسحرين} قال مجاهد وقتادة: من المسحورين المخدوعين، أي: ممن سحر مرة بعد مرة، أي: حتى غلب على عقله، وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أي: من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب ولست بملك وعلى هذا يكون قولهم:
{ما أنت إلا بشر مثلنا} تأكيداً له، قيل المسحور: هو المخلوق بلغة بجيلة أي: فما وجه خصوصيتك عنا بالرسالة {فأت بآية} أي: علامة تدل على صدقك {إن كنت من الصادقين} أي: الراسخين في الصدق فقال لهم صالح: ما تريدون قالوا نريد ناقة عشراء تخرج من هذه الصخرة فتلد سقباً فأخذ صالح يتفكر فقال له جبريل صلّ ركعتين وسل ربك الناقة ففعل فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم ونتجت سقباً مثلها في العظم، وعن أبي موسى رأيت مصدرها فإذا هو ستون ذراعاً فلما رآها.
{قال} لهم صالح {هذه ناقة} أخرجها ربي من الصخرة كما اقترحتم {لها شرب} أي: نصيب من الماء في يوم معلوم {ولكم شرب يوم} أي: نصيب من الماء في يوم {معلوم} لا زحام بينكم وبينها، وعن قتادة: إذا كان يوم شربها شربت ماءهم ولا تشرب في يومهم ماء.
{ولا تمسوها بسوء} كضرب وعقر، ثم خوّفهم بما تسبب عن عصيانهم بقوله: {فيأخذكم} أي: يهلككم {عذاب يوم عظيم} بسبب ما حل فيه من العذاب فهو أبلغ من وصف العذاب بالعظيم، وأشار إلى سرعة عصيانهم بفاء التعقيب في قوله.
{فعقروها} أي: فقتلوها بضرب ساقها بالسيف وأسند العقر إلى كلهم لأنّ عاقرها إنما عقر برضاهم فكأنهم فعلوا ذلك {فأصبحوا} أي: فتسبب عن عقرهم لها أنهم أصبحوا حين رأوا مخايل العذاب {نادمين} على عقرها من حيث إنه يفضي إلى العقاب والهلاك لا من حيث إنه معصية الله ورسوله وليس على وجه التوبة، أو كان ذاك عند رؤية البأس فلم ينفعهم.

{فأخذهم العذاب} أي: العذاب الموعود على عقرها {إن في ذلك} أي: ما تقدم في هذه القصة من الغرائب {لآية} أي: دلالة عظيمة على صحة ما أمروا به عن الله {وما} أي: والحال أنه مع ذلك ما {كان أكثرهم مؤمنين} بل استمرّوا على ما هم عليه.
{وإنّ ربك} أي: المحسن إليك بأحسن الأخلاق {لهو العزيز} أي: فلا يخرج شيء عن قبضته وإرادته {الرحيم} أي: في كونه لم يهلك أحداً حتى يرسل إليهم رسولاً يبين لهم ما يرتضيه الله تعالى وما يسخطه.
ثم أتبع قصة صالح عليه السلام قصة لوط عليه السلام وهي القصة السادسة فقال:

أي: كتكذيب من تقدم كأنهم تواصوا به {قوم لوط المرسلين} لأنّ من كذب رسولاً كما مضى فقد كذب الكل ثم بين إسراعهم في الضلال بقوله تعالى:
{إذ} أي: حين {قال لهم أخوهم} أي: في البلد لا في الدين ولا في النسب لأنه ابن أخي إبراهيم عليهما السلام وهما من بلاد الشرق من أرض بابل، وكأنه عبر بالأخوة لاختياره

الصفحة 28