كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 3)
لمجاورتهم ومناسبتهم بمصاهرتهم وإقامته بينهم في مدينتهم مدة مديدة وسنين عديدة وإتيانه بالأولاد من نساءهم مع موافقته لهم في أنه قروي ثم بينه بقوله تعالى: {لوط} بصيغة العرض كغيره ممن تقدم {ألا تتقون} الله فتجعلون بينكم وبين سخطه وقاية، ثم علل ذلك بقوله:
{إني لكم} أي: خاصة {رسول} فلا تسعني المخالفة {أمين} لا غش عندي ولا خيانة، ثم تسبب عن ذلك قوله:
{فاتقوا الله} أي: الملك العظيم فإنه قادر على ما يريد فلا تعصوه {وأطيعون} أي: لأنّ طاعتي سبب نجاتكم لأني لا آمركم إلا بما يرضيه ولا أنهاكم إلا عما يغضبه ثم نفى عن نفسه ما يتوهم كما تقدم لغيره بقوله:
{وما أسألكم عليه} أي: الدعاء إلى الله تعالى {من أجر} أي: فتتهموني بسببه {إن أجري إلى على رب العالمين} أي: المحسن إليّ بإيجادكم ثم بتربيتكم، ثم وبخهم ووعظهم بقوله:
{أتأتون الذكران} وقوله {من العالمين} يحتمل عوده إلى الآتي، أي: أنتم من جملة العالمين مخصوصون بهذه الصفة وهي إتيان الذكور ولم يفعل هذا الفعل غيركم من الناكحين من الخلق، ويحتمل عوده إلى المأتي: أي: أنتم اخترتم الذكران من العالمين كالإناث منهم وعلى هذا يحتمل أن يراد الذكران من الآدميين ومن غيرهم توغلاً في الشرّ وتجاهراً بالتهتك، قال البقاعي: وإن يراد الآدميون وجرى عليه البغوي وأكثر المفسرين أي: تريدون الذكران من أولاد آدم مع كثرة الإناث وغلبتهنّ.
{وتذرون} أي: تتركون لهذا الغرض {ما خلق لكم} أي: للنكاح {ربكم} أي: المحسن إليكم وقوله {من أزواجكم} يصلح أن يكون تبييناً أي: وهن الإناث وأن يكون للتبعيض ويكون المخلوق لذلك هو القبل، وكانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم، ثم كأنهم قالوا نحن لم نترك نساءنا أصلاً ورأساً وإن كانوا قد فهموا أنّ مراده تركهن حال الفعل في الذكور، فقال مضرباً عن مقالهم لما أرادوا به حيدة عن الحق وتمادياً في الفجور {بل أنتم قوم عادون} أي: متجاوزون عن حدّ الشهوة حيث زادوا على سائر الناس بل والحيوانات أي: مفرطون في المعاصي، وهذا من جملة ذلك، أو أحقاء بأن توصفوا بالعدوان بارتكابكم هذه الجريمة، ولما اتضح الحق عندهم وعرفوا أن لا وجه لهم في ذلك وانقطعت حجتهم.
{قالوا} مقسمين {لئن لم تنته} وسموه باسمه جفاء وغلظة بقولهم: {يا لوط} أي: عن مثل إنكارك هذا علينا {لتكونن من المخرجين} أي: ممن أخرجناه من بلدنا على وجه فظيع من تعنيف واحتباس أملاك كما هو حال الظلمة إذا أجلوا بعض من يغضبون عليه وكما كان يفعل بعض أهل مكة بمن يريد المهاجرة، وفي هذا إشارة إلى أنه غريب عندهم وأنّ عادتهم المستمّرة نفي من اعترض عليهم.
{قال} مجيباً لهم {إني} مؤكداً المضمون ما يأتي به {لعملكم من القالين} أي: المبغضين غاية البغض لا أقف عن الإنكار عليه بالإبعاد.
تنبيه: قوله من القالين: أبلغ من أن يقول إني لعملكم قالٍ كما تقول فلان من العلماء فيكون أبلغ من قولك فلان عالم لأنك تشهد له بكونه معدوداً في زمرتهم ومعروفة مساهمته لهم في العلم، والقلي: البغض الشديد كأنّ البغض يقلي الفؤاد والكبد والقالي المبغض كما قال القائل:
*ووالله ما فارقتكم قالياً لكم ... ولكن ما يقضى عليّ يكون*
الصفحة 29
604