كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 3)
{ألا يكونوا} أي: قومك {مؤمنين} أي: راسخين في الإيمان أي: لا تبالغ في الحزن والأسف فإن هذا الكتاب في غاية البيان في نفسه والإبانة للغير، وقد تقدم في غير موضع أنه ليس عليك إلا البلاغ ولو شئنا لهديناهم طوعاً أو كرهاً. والبخع: أن يبلغ بالذبح البخاع بالخاء والباء وهو عرق مستبطن الفقار وذلك أقصى حد الذابح. ولعل: للإشفاق أي: أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على ما فاتك من إيمان قومك فصبره وعزاه وعرفه أن حزنه وغمه لا ينفع كما أن وجود الكتاب ووضوحه لا ينفع، ثم إنه تعالى أعلمه بأن كل ما هم فيه إنما هو بإرادته بقوله تعالى:
{إن نشأ ننزل عليهم} وعبر بالمضارع فيهما إعلاماً بدوام القدرة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون الثانية وإخفائها عند الزاي وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي، ثم قال تعالى محققاً للمراد {من السماء} أي: التي جعلنا فيها بروجاً للمنافع، وأشار إلى تمام القدرة بتوحيدها بقوله تعالى: {آية} أي: قاهرة كما فعلنا ببعض من قبلهم بنتق الجبل ونحوه.
تنبيه: هنا همزتان مختلفتان، أبدل نافع وابن كثير وأبو عمرو الهمزة الثانية المفتوحة بعد المكسورة ياء خالصة، وحققها الباقون. ثم أشار تعالى إلى تحقق هذه الآية بالتعبير بالماضي في قوله تعالى عطفاً على ننزل لأنه في معنى أنزلنا {فظلت} أي: عقب الإنزال من غير مهلة {أعناقهم} أي: التي هي موضع الصلابة وعنها تنشأ حركات الكبر والإعراض {لها خاضعين} أي: منقادين.
تنبيه: خاضعين: خبر عن أعناقهم، واستشكل جمعه جمع سلامة لأنه مختص بالعقلاء؟ وأجيب عنه بأوجه: أحدها: أن المراد بالأعناق رؤساءهم ومقدموهم شبهوا بالأعناق كما يقال لهم الرؤوس والنواصي والصدور، قال القائل:
*في محفل من رؤوس الناس مشهود*
ثانيها: أنه على حذف مضاف أي: فظل أصحاب الأعناق ثم حذف وبقي الخبر على ما كان عليه قبل الحذف المخبر عنه مراعاة للمحذوف.
ثالثها: أنه لما أضيف إلى العقلاء اكتسب منهم هذا الحكم كما يكتسب التأنيث بالإضافة لمؤنث في قوله:
*كما شرقت صدر القناة من الدم*
رابعها: قال الزمخشري: أصل الكلام فظلوا لها خاضعين فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع وترك الكلام على أصله كقولهم: ذهبت أهل اليمامة كأن الأهل غير مذكور، ونوزع في التنظير لأنّ أهل ليس مقحماً البتة لأنه المقصود بالحكم.
خامسها: أنها عوملت معاملة العقلاء، كقوله تعالى: {ساجدين} (يوسف، 4) {وطائعين} (فصلت، 11) في يوسف والسجدة، وقيل إنما قال تعالى: {خاضعين} لموافقة رؤوس الآي لتكون على نسق واحد.
{وما يأتيهم} أي: الكفار {من ذكر} أي: موعظة أو طائفة من القرآن يذكروننا به فيكون سبب ذكرهم وشرفهم {من الرحمن} أي: الذي أنكروه مع إحاطة نعمه بهم {محدث} أي: بالنسبة إلى تنزيله وعلمهم به وأشار تعالى إلى دوام كبرهم بقوله تعالى: {إلا كانوا عنه معرضين} أي: إعراضاً هو صفة لهم لازمة، ولما كان حال المعرض عن الشيء حال المكذب به قال تعالى.
{فقد} أي: فتسبب عن هذا الفعل منهم أنه قد {كذبوا} أي: بالذكر بعد إعراضهم وأمعنوا في تكذيبه بحيث أدى بهم إلى الاستهزاء به المخبر به عنهم ضمناً في قوله تعالى: {وسيأتيهم} أي: إذا مسهم عذاب الله تعالى يوم بدر ويوم القيامة {أنباء} أي: عظيم أخبار
الصفحة 3
604