كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 3)

ثم دعاني بالطعام فقدمته ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا وشربوا ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بني عبد المطلب إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على أمري ويكون أخي ووصي وخليفتي فيكم فأحجم القوم عنها جميعاً، فقلت وأنا أحدثهم سناً: أنا يا رسول الله أكون وزيرك عليه قال فأخذ برقبتي ثم قال: إنّ هذا أخي ووصي وخليفتي فيكم فاسمعوا وأطيعوا فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لعليّ وتطيع.
وعن ابن عباس: لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين} خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يا بني عديّ لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدّقي قالوا: نعم ما جرّبنا عليك إلا الصدق قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قال أبو لهب تباً لك ما جمعتنا إلا لهذا، ثم قام فنزلت {تبت} أي: خسرت {يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب} (المسد: 1 ـ 2)
وفي رواية فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف يا صباحاه فقالوا من هذا؟ فاجتمعوا إليه فقال: أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدّقي» إلى آخر ما مرّ.
وعن أبي هريرة قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله هذه الآية فقال يا معشر قريش أو كلمة نحوها، اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً ويا فاطمة بنت محمد سلي ما شئت من مال لا أغني عنك من الله شيئاً» .
وروى أبو يعلى عن الزبير بن العوام: «أنّ قريشاً جاءته فحذرهم وأنذرهم فسألوه آيات سليمان في الريح وداود في الجبال وعيسى في إحياء الموتى ونحو ذلك وأن يسير الجبال ويفجر الأنهار ويجعل الصخرة ذهباً فأوحى الله تعالى إليه وهم عنده فلما سري عنه أخبرهم أن أعطي ما سألوه ولكنه إن أراهم فكفروا عوجلوا، فاختار صلى الله عليه وسلم الصبر عليهم ليدخلهم الله باب الرحمة فلما كانت النذارة إنما هي للمشركين، أمر بضدّها لأضدادهم» بقوله تعالى:
{واخفض جناحك} أي: لمن غاية اللين وذلك لأنّ الطائر إذا أراد أن يرتفع رفع جناحيه، وإذا أراد أن ينحط كسرهما وخفضهما فجعل ذلك مثلاً في التواضع، ومنه قول بعضهم:
*وأنت الشهير بخفض الجناح ... فلأنك في رفعه أجدلا*
ينهاه عن التكبر بعد التواضع {لمن اتبعك من المؤمنين} أي: سواء كانوا من الأقربين أم من الأبعدين، فإن قيل: المتبعون للرسول هم المؤمنون؟.

أجيب: بوجهين: أحدهما: أن تسميتهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين لمشارفتهم ذلك، الثاني: أن يريد بالمؤمنين المصدّقين بألسنتهم وهم صنفان صنف: صدّق واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، وصنف: ما وجد منه إلا التصديق فقط، أما أن يكونوا منافقين أو فاسقين والفاسق والمنافق لا يخفض لهما الجناح فمن على هذا للتبعيض، وإن أريد عموم الإتباع فهي للتبيين واختلف في الواو في قوله تعالى:

{فإن عصوك}

الصفحة 37