كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 3)

بنت شعيب عليه السلام عند مسيره من مدين إلى مصر وهي القصة الأولى من قصص هذه السورة، قال الزمخشريّ: روي أنه لم يكن مع موسى عليه السلام غير امرأته، وقد كنى الله تعالى عنها بالأهل فتبع ذلك ورود الخطاب على لفظ الجمع وهو قوله: امكثوا، وكانا يسيران ليلاً وقد اشتبه الطريق عليهما والوقت وقت برد، وفي مثل هذا الحال يقوى الناس بمشاهدة نار من بعد، لما يرجى فيها من زوال الحيرة وأمن الطريق ومن الانتفاع بالنار للإصطلاء، فلذلك بشرها فقال: {إني آنست} أي: أبصرت إبصار حصل لي به الأنس وأزال عني الوحشة {ناراً سآتيكم منها بخبر} أي: عن حال الطريق وكان قد أضلها، وعبر بلفظ الجمع كما في قوله: {امكثوا} فإن قيل: كيف جاء بسين التسويف؟ أجيب: بأنّ ذلك عدة لأهله أنه يأتيهم به وإن أبطأ الإتيان أو كانت المسافة بعيدة، فإن قيل: قال هنا {سآتيكم منها بخبر} وفي السورة الآتية: {لعلي آتيكم منها بخبر} (القصص: 29)
وهما كالمتدافعين لأنّ أحدهما ترج والآخر تيقن؟ أجيب: بأنّ الراجي قد يقول إذا قوي رجاؤه سأفعل كذا وسيكون كذا مع تجويزه الحقيقة.

{أو آتيكم بشهاب قبس} أي: شعلة نار في رأس فتيلة أو عود، قال البغويّ: وليس في الطرف الآخر نار، وقال بعضهم الشهاب شيء ذو نور مثل العمود والعرب تسمى كل شيء أبيض ذي نور شهاباً، والقبس: القطعة من النار، وقرأ الكوفيون بشهابٍ بالتنوين على أنّ القبس بدل منه أو وصف له لأنه بمعنى المقبوس، والباقون بإضافة الشهاب إليه لأنه يكون قبساً وغير قبس فهو من إضافة النوع إلى جنسه، نحو ثوب خز إذ الشهاب شعلة من النار والقبس قطعة منها يكون في عود أو غيره كما مرّ.
فإن قيل: لم جاء بأو دون الواو؟ أجيب: بأنه بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعاً لم يعدم واحدة منهما، إمّا هداية الطريق وإمّا اقتباس النار ثقة بعادة الله أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده، وما أدراه حين قال ذلك أنه ظافر على النار بحاجتيه الكليتين جميعاً وهما العزان عز الدنيا وعز الآخرة، ثم إنه عليه السلام علل إتيانه بذلك إفهاماً لأنها ليلة باردة بقوله: {لعلكم تصطلون} أي: لتكونوا في حال من يرجى أن يستدفئ بذلك من البرد، والطاء بدل من تاء الافتعال، من صلى بالنار بكسر اللام وفتحها.

{فلما جاءها} أي: تلك التي ظنها ناراً {نودي} من قبل الله تعالى {أن بورك} أن هي المفسرة لأنّ النداء فيه معنى القول، والمعنى قيل له: بورك، أو المصدرية أي: بأن بورك، وقوله تعالى: {من في النار} أي: موسى {ومن حولها} أي: الملائكة هو نائب الفاعل لبورك، والأصل بارك الله من في النار ومن حولها، وهذا تحية من الله عز وجلّ لموسى بالبركة.

ومذهب أكثر المفسرين أنّ المراد بالنار النور ذكر بلفظ النار لأنّ موسى حسبه ناراً، أو من في النار هم الملائكة، وذلك أنّ النور الذي رآه موسى عليه السلام كان فيه الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتقديس ومن حولها هو موسى لأنه كان بالقرب منها ولم يكن فيها، وقال سعيد بن جبير: كانت النار بعينها والنار إحدى حجب الله تعالى، كما جاء في الحديث: «حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه» الحديث تنبيه: بارك يتعدّى بنفسه وبحرف الجرّ يقال باركك الله وبارك عليك وبارك فيك وبارك لك، وقال الشاعر:

الصفحة 43